الهجوم المفاجئ الذي شنته المقاومة، يوم السبت السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كان بمثابة الصاعقة على العدو الإسرائيلي، ومنظومته العسكرية والأمنية والسياسية التي تعرضت لارتباك شديد، استغرقها أياما حتى تصحو من هول الصدمة، وتعيد الإمساك بزمام الأمور في الكيان. وربما لو كانت هناك متابعة فورية للهجوم الأولي، لأصبح العدو في وضعٍ غير الذي هو فيه الآن.
كانت خطة الهجوم محكمةً إلى درجة أذهلت الخبراء العسكريين والأمنيين في العالم. وكانت المعلومات والخرائط، بيد المقاتلين ربما من أهم عناصر الخطة العسكرية، مع أهمية باقي العناصر. فقد لعبت المعلومات التي جمعتها عيون المقاومة، وإن جاز التعبير “جواسيس المقاومة” دوراً محورياً في نجاح العملية، وتحقيق النصر. فدقة المعلومات عادة تلعب دوراً مهما في الحروب.
بين طوفان الأقصى 2023 واجتياح لبنان 1982:
أربعون عاماً فصلت بين عملية طوفان الأقصى وبين اجتياح لبنان. فبعد الاجتياح الإسرائيلي، ودخول بيروت، أخذ الناس آنذاك يسمعون القصص وروايات شهود العيان عن العدد الكبير من الجواسيس الذين دستهم إسرائيل، تحديداً في العاصمة اللبنانية. وكيف أغرق العدو بيروت بجواسيسه، الذين جمعوا له المعلومات الاستخباراتية، على مدى سنوات، استعداداً لذلك اليوم، يوم دخول بيروت.
هؤلاء الجواسيس تقمصوا شخصيات متنوعة. من متسول مسكين، ومشرد في الشوارع، وبائع متجول، وصاحب بسطة، بقي في زاوية الشارع نفسه لسنين.
وقد نشرت كتبٌ كثيرة حولهم. كانت مهامهم مراقبة الناس، ورصد تحركات مقاتلي المقاومة والقادة. كما لعبوا دوراً في إرشاد مقاتلات العدو المغيرة على بيروت، إلى أماكن اجتماعات القيادات، وغرف العمليات، ومخازن الأسلحة وغير ذلك.
ولما دخلت القوات الإسرائيلية بيروت ذهبت إلى حيث يتواجد جواسيسها. كان جنود العدو كأنهم يعرفون كل واحد من هؤلاء، كما أفاد شهود العيان، يؤدون التحية العسكرية للجاسوس، ثم يصعد في مركباتهم ويذهبون به، بعد أن أكمل مهمته. ومنهم من كان يرتدي زيه الرسمي ويعود ليقف عند حواجز العدو للتعريف على من كان يراقبهم. وقيل في حينه إن هؤلاء الجواسيس كانوا يحملون رتباً عسكرية رفيعة.
انبهر الناس من روايات سكان بيروت، ومن كيفية عمل إسرائيل، من تخطيط وتدبير لسنوات، بخبث ودهاء، وسرية تامة، كي تباغت عدوها، الذي هو نحن. وتَرسَخَ أكثر وأكثر في وجداننا ووعينا أننا أمام عدوٍ لا يُقهر فعلاً. فانهزمنا من الداخل، شر هزيمة، وفقدنا الأمل في التغلب على هكذا عدو، إلى أن جاء يوم السبت، السابع من أكتوبر/تشرين الأول، الذي كان حداً فاصلاً بين الوهم والحقيقة، بالنسبة لنا.
ويستطيع المرء أن يقول بكل اطمئنان أن هذه الجولة الأخيرة من الصراع مع العدو قد وضعت حداً، وأنهت إلى الأبد، أسطورة العدو الذي لا يُقهر. فرغم منع النشر في إسرائيل، تم تداول معلومات كثيرة عن العدد الحقيقي لقتلاها وجرحاها، والحجم الكبير من الدمار الذي لحق بمدنها ومستوطناتها، وبنيتها التحتية، وباقتصادها، وهيبة جيشها أمام العالم، الهيبة التي أصبحت موضعاً للتندر.

خليل: البطل الجاسوس

بدأت تتسرب قصص وأسرار من جانب العدو تفيد بما لا يدع مجالاً للشك أن الذي حدث لنا في اجتياح لبنان، 1982، قد حدث مثله للعدو يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، 2023.
اليوم الذي يُؤرَخُ له أنه شهد أول هزيمة عسكرية تلحق بإسرائيل، من داخل فلسطين، منذ أن زرعها المستعمرون على أرضنا.
من بين ما نُشر قصة مستوطنة “نتيف هعسراه”، الواقعة ضمن غلاف غزة، شمال غرب النقب، على الحدود الشمالية مع القطاع، وهي الأقرب إلى الحد الفاصل، ولا يتجاوز عدد سكانها الألف نسمة.
تكشف إحدى المُستوطِنات أن “خليل”، العامل الغزاوي الذي أمضى سنوات طويلة يقدم خلالها خدماته للمستوطنين، تبين أنه كان بمثابة “مخبرٍ أو جاسوسٍ” لصالح المقاومة في غزة، وهو الذي ساهم في وضع خرائط مفصلة للمستوطنة، وبيوتها، وسكانها، وأسماء العائلات، وأرقام بيوتها، وعدد الأطفال، وغير ذلك من تفاصيل. وكان كلٌ من المقاومين، أثناء هجومهم على هذه المستوطنة، يحمل نسخة من خريطة خليل في جيبه. فكانوا على معرفة دقيقة بالمستوطنة ومن فيها قبل دخولها.

شاهدة عيان

تصف المستوطِنة اليهودية ما حدث في هجوم السابع من أكتوبر /تشرين الأول بالقول: “سمعت صوت قذيفة كأنها صاروخ “غراد”، انقطع التيار الكهربائي، توقف المكيف، والإنترنت، وتوقفت الاتصالات. ثم جاءت خلية (من المقاومين)، يحملون في جيوبهم خرائط للمستوطنة، تتضمن معلومات في منتهى الدقة عن قاطنيها وعائلاتهم. عائلة “تاسا” مثلاً تقطن المزرعة رقم 7. “سبين تاسا” لديهم 4 أولاد، ولا يوجد كلاب. “أبراهام تاسا” يسكن هناك .. وهكذا”.
وتضيف: “كان عندنا عامل، اسمه “خليل”، في منطقتنا. كان خليل طيباً ومحترماً. كلنا كنا نشفق عليه. عمل في “نتيف هعسراه” مدة 30 عاماً. كان يصبغ البيوت، ويقوم بأعمال السباكة. كان يتواجد عند هذا وعند ذاك. كنا نُحضِر له الطعام والماء. عمل “خليل” لدى الجميع، في “نتيف”. كان جزءاً منا. كأنه كان رجل السلام بيننا وبين قطاع غزة”
وهكذا اكتشف المستوطنون، بعد مرور ثلاثة عقود من الزمن، أن “خليل” كان جاسوساً عليهم لصالح المقاومة. مثلما اكتشف أهل بيروت أن بائع الترمس، على زاوية الشارع، كان جاسوساً عليهم لصالح العدو الإسرائيلي. ويمكن للمرء أن يتخيل كم “خليل” كان هناك، كلهم ساهموا في تحطيم أسطورة العدو الذي لا يُقهر.
كثيرون قالوا إن السابع من أكتوبر/تشرين الأول لن يكون مثل ما قبله. ففيه شرب الغاصبون من الكأس نفسه الذي شربنا منه نحن، عندما كنا مخترقين حتى العظم، والآن أصبحنا نحن نخترق العدو حتى النخاع. وهذا يثبت صحة قول الشاعر: “وما فلسطين إن صحت عزائمنا … بعيدة الدار تستعصي على الطلب”.

كاتب أردني