كانت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) أكبر الصراعات الدموية في تاريخ البشرية، كيف لا وقد شهدت هلاك سبعين مليون شخص في أنحاء الدنيا، منهم 15 مليونا سقطوا في ساحات المعارك الطاحنة. وهي أكثر الحروب إبادة، لقي فيها ملايين الأبرياء العزل حتفهم بأبشع طرق التعذيب والقتل على منوال تلك المحارق المنظمة التي صارت تُعرف بعد ذلك باسم «هولوكوست»، تلك المذابح الجماعية التي لقي فيها ما يناهز ستة ملايين يهودي حتفهم على أيدي النازيين والمتعاونين معهم.
كان من بين الناجين من هذه المذابح أسرة ألمانية فرّت من برلين ولجأت إلى بريطانيا قبل اعتلاء هتلر مقاليد الحكم فيها وإضرامه فتيل الحرب المدمرة. وقد كان من أفراد هذه الأسرة فتاة لم يتجاوز سنها آنذاك التاسعة. حلَّت الفتاة في لندن يراودها الحلم بأن تكون في يوم ما كاتبة ناجحة، ولم يتحقق حلمها إلاَّ وهي في الأربعينيات من عمرها. إنها كاتبة قصص الأطفال والرسامة التوضيحية البريطانية جوديث كير التي فارقت الحياة مؤخرا، في يوم 22 مايو/أيار، عن عمر يناهز 95 سنة.
الاضطهاد النازي
ولدت جوديث كير يوم 14 يونيو/حزيران 1923. ونشأت في حضن أسرة ألمانية من أصل يهودي في مدينة برلين. كانت والدتها جوليا، ملحنةً، بينما كان والدها ألفريد كير، كاتبا وناقدا مسرحيا ومثقفا يهوديا مؤثرا. ألفريد كير ومثقفون يهود آخرون سارعوا منذ البداية إلى التعبير عن معارضتهم النظام النازي الجديد وانتقاده علنا، ما جعل حياتهم جميعا معرّضة للخطر. قال عن ذلك الناقد المسرحي الألماني بيتر فون بيكر: «لقد أدرك هؤلاء المفكرون اليهود من أمثال ألفريد كير على الفور أن هذا هجومٌ على البشرية جمعاء، وليس على أنفسهم حسب». الهجوم النازي على ألفريد كير وأسرته لم يتأخر. ففي عام 1933، أحرق النازيون كتبه انتقاما. عندئذ عجلت الأسرة المعرّضة للخطر بالفرار إلى فرنسا مرورا بسويسرا، ومنها لجأت إلى بريطانيا سنة 1935.
حياة قاسية في المنفى
الحياة في بريطانيا لم تكن يسيرة على الإطلاق بالنسبة لهذه الأسرة اللاجئة التي صارت تعاني من مرارة البعاد عن الأوطان التي نشأت فيها. كان مصيرها شبيها بمصير أشجار تُقتلع من بيئتها الخصبة الدافئة، لتقذف في بيئة مختلفة باردة تصارع فيها لأجل الحياة. ففي هذا المنفى، عاشت الأسرة في ظروف اقتصادية ونفسية صعبة. وقد عانت والدتها من الاكتئاب إلى درجة أنها فقدت الرغبة في الحياة، فحاولت الانتحار غير مرة. وبينما كان والدها نشيطا مؤثرا في ألمانيا، فقد شعر الآن بأنه مقيد، مشلول الذهن، مكروب الخاطر في هذا البلد الجديد الذي لم يكن يحسن لغته. في مثل هذه الظروف الصعبة، ترعرعت جوديث كير. كانت تعيش معاناة والديها، ومأساة ملايين من البشر من بني جلدتها تركتهم خلفها يتعذبون ويموتون على أيدي النازيين وأتباعهم، وهو ما أثّر فيها وفي كتاباتها. عبّرت عن ذلك في مؤلفها الذي كان بعنوان «من زمن هتلر»، ثلاثية روائية من صنف السيرة شبه الذاتية، موجهة إلى الأطفال والشباب، صوَّرت فيها بروز النظام النازي في ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي والفرار من ألمانيا والحياة في المنفى في بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، وفترة ما بعد الحرب العالمية التي ميزتها الحرب الباردة. وهي سلسلة بدأتها بكتاب «عندما سرق هتلر الأرنب الوردي» سنة 1971. وعبّرت جوديث كير عن الموت في كتاب «وداعاً كوغ» الصادر سنة 2002، حيث اختارت أن تنتهي القصة بموت البطل المتمثّل في القط. فقد أرادت من خلال ذلك أن تصوِّر للأطفال، وبلغة يفهمها الصغار، ظاهرة الموت، وأرادت أن تشعرهم بمعنى فقدان أشخاص أعزاء.
رحلت جوديث كير وبقي اسمها خالدا شاهدا على مأساة لاجئي إبادات الهولوكوست، التي أودت بحياة ملايين البشر.
أطفالها مصدر إلهامها
مع أنّ جوديث كير كانت تحلم بأن تكون كاتبة منذ طفولتها، إلاَّ أنّ حلمها هذا لم يتحقق إلاَّ وهي في الأربعينيات من عمرها، وكان لها آنذاك أطفال استمدت منهم روح الإلهام. ففكرة كتابة «النمر الذي جاء لشرب الشاي» 1968، خطرت ببالها عند زيارتها حديقة الحيوانات رفقة ابنتها الصغيرة، التي لم تكن تتجاوز الثالثة. يروي هذا الكتاب، الموضح بصور، قصة فتاة تدعى (صوفيا) تجلس رفقة والدتها لتناول الشاي عندما يحل في بيتها نمر لتناول الشاي من غير دعوة. وبعد ذلك تنمو علاقة حميمة بين الفتاة والنمر، الذي يرحل عنها، فتعيش على أمل عودته يوما. الرواية تعد من الكتب الأكثر مبيعا إلى يومنا هذا. وقد تعدّى صيتها حدود بريطانيا حيث ترجمت إلى لغات مختلفة في العالم مثل، الألمانية والفرنسية وحتى اللغات الشرقية مثل اليابانية. وتم تحويلها إلى مسرحية موسيقية ناجحة إخراج ديفيد وود. وقد اعترفت جوديث كير نفسها بمدى تأثير أطفالها فيها، حيث قالت في حديثها عن تلك الرواية: «إنها مجرد قصة أطفال للقراءة قبل النوم، صنفتها لأجل ابنتي لما كانت في الثانية إلى الثالثة من عمرها.. كنت أعرفها عن ظهر قلب، وأحفظ كل كلمة من كلماتها». حتى «كتاب عندما سرق هتلر الأرنب الوردي» من سلسلة «خارج زمن هتلر»، فقد كان ابنها البالغ من العمر آنذاك 8 سنوات مصدرَ إلهامها. كان يرغب في التعرف على نمط الحياة عندما كانت والدته صغيرة. فصوّرت له تلك الحياة من خلال هذا العمل.
سلاسة السرد
ونحن نتأمّل مؤلفات جوديث كير نتساءل عن السر في نجاحها ورواجها وانجذاب الصغار إليها، فلا نشعر بأننا أمام أعمال عجيبة خارقة للعادة تسبح بنا بعيدا إلى عوالم أخرى مختلفة مثيرة على منوال قصص «ألف ليلة وليلة» أو «أليس في بلاد العجائب». فأعمال جوديث كير تبدو بسيطة من حيث الفكرة واللغة معاً. نلمح ذلك بوضوح في كتاب «النمر الذي جاء لشرب الشاي». فمن خلال انتهاجها أفكارا بسيطة مرتبطة بواقع الطفل والمنزل الذي يعيش فيه، والتعبير عن ذلك بلغة بسيطة يفهمها الطفل ويتفاعل معها ويستمتع بوقائعها، ويشعر بأنه حاضر فيها، استطاعت جوديث كير أن تجذب هذا الطفل إلى مؤلفاتها، وهذا بلا ريب هو سر تعلقه بها.
واللافت في أدب جوديث كير تأنيها الكبير في الكتابة، وكأنها لا تكتب إلاَّ لأجل المتعة وتقاسم المتعة مع الصغار. نلمح ذلك في «سلسلة موغ» وكلمة mog أو moggy في اللغة الإنكليزية تعني «قط»، وهو شخصية خيالية تلعب دورا جديدا وتحيا حدثا مختلفا في كل جزء. فقد نشرت المؤلفة الجزء الأول من هذه السلسلة، المؤلفة من 17 جزءا سنة 1970. ونشرت الأجزاء الأخرى في أوقات متباعدة. ولم يصدر الجزء الأخير إلاَّ سنة 2015، أي بعد 45 سنة! واللافت في هذا العمل بالذات هو النهاية غير المعتادة في قصص الأطفال، وهو موت موغ في الجزء الصادر سنة 2002 بعنوان «وداعاً موغ».
نجاح تعدى حدود بريطانيا
في يوم 22 مايو هذه السنة، فارقت جوديث كير الحياة بعدما حققت نجاحا باهرا بحصيلة وصلت إلى 30 كتاباً، في مقدمتها «النمر الذي جاء لشرب الشاي» الذي يبقى الكتاب الأكثر رواجا. ويعدُّ كتاب «عندما سرق هتلر الأرنب الوردي» اليوم من أشهر المؤلفات الموجهة إلى الأطفال في العالم. وقد توّج هذا العمل بالفوز بجائزة أدب الأطفال الألمانية سنة 1974. ولم يتوقف التكريم عند هذا الحد. ففي عام 2012، حصلت كير على وسام الإمبراطورية البريطانية عرفانا بالجهود التي بذلتها في أدب الأطفال والتنوير بالمحرقة (الهولوكوست). وفي عام 2016، فازت بجائزة (بوك ترست) لإنجاز العمر. وقد تُرجمت أعمالها إلى 25 لغة، وباعت مؤلفاتها أكثر من تسعة ملايين نسخة في أنحاء العالم.
رحلت جوديث كير وبقي اسمها خالدا شاهدا على مأساة لاجئي إبادات الهولوكوست، التي أودت بحياة ملايين البشر. جوديث كير لم تنس هؤلاء، ولا الأرض التي رحلت عنها، ولا البلاد التي لجأت إليها حيث عبّرت، من خلال حوارات، عن جزيل شكرها وعرفانها لوطنها الجديد بريطانيا، الذي فتح لها ولأسرتها أبواب اللجوء، فبقيت في هذا البلد إلى آخر لحظة في عمرها. ستُذكر جوديث كير لكل ذلك، وستُذكر لما بذلته من جهد خدمة للأطفال، وهي من أفنت عمرها في الكتابة لهم. وستُذكر لإيمانها بالمحبة والكرم والإيثار والأعمال الخيرية. فعندما حقق أحد أجزاء سلسلة موغ نجاحا باهرا، وصار من أكثر الكتب القصصية المصورة مبيعاً، محققا أكثر من مليون جنيه إسترليني، فقد اختارت الفقيدة أن تذهب الفوائد لصالح حملة محو الأمية لإنقاذ الأطفال.
٭ كاتب جزائري بريطانيا
شكرا لتعريفنا بكاتبة عظيمة تكتب للأطفال بلغة يفهمونها …
جميل جداا ما نثر قلمك من معلومات و طرح ..دمت الادب و لنستفيد أكثر من تجارب و إبداعات الغير..مبدع و راقي كالعادة
حضرة الأستاذة أحلام يحيى /حضرة الأستاذة بايا..
سعدت بمتابعتكم واهتمامكم وتشجيعكم.. جويث كير رغم اسهاماتها وعظمتها وشهرتها الواسعة في بريطانيا وأوروبا تبقى للأسف مجهولة في الوطن العربي.. وبعد رحيلها المؤسف في شهر مايو أرتأيت البحث في حياتها وأعمالها والكتابة عنها بما أمكن جمعه من التفاصيل لعلي اساهم في التعريف بها في العالم العربي. اعتمدت في هذا البحث على مراجع كلها باللغة الإنجليزية بما في ذلك مؤلفاتها وما قاله الإعلام عنها وما قالته لوسائل الإعلام باللغة الإنجليزية واحتجت إلى ترجمة هذه الأقوال إلى العربية وهو ما تطلب وقتا وجهدا.. لكني أشعر اليوم بالسعادة ان الجماهير العربية تستطيع اليوم التعرف على هذه الشخصية العظيمة من خلال هذا المقال وبفضل أكبر صحيفة عربية القدس العربي.. شعرت أثناء هذا البحث وبعد الاطلاع على سيرة جوديث كير أننا في الأوطان العربية نستطيع أن نتعلم منها الكثير: الاهتمام بأدب الطفل، التأني في الكتابة (سلسلة Mog استغرقت 45 سنة)، المحبة، العطاء دون انتظار مقابل، التواضع، حب الأوطان الجديدة (عبرت عن شكرها وعرفانها لبريطانيا التي أمضت فيها بقية عمرها) وغير ذلك.
مرة أخرى شكرا جزيلاً لتشجيعكم فهذه مقالات تتطلب الكثير من البحث والصبر.. دمتم بخير مودتي وتقديري