جورج اورويل 2013 !

حجم الخط
2

لم يكن عام 1984 الذي حملت رواية جورج اورويل اسمه هو العام الذي تحققت فيه النبوءة، سواء عن نظام شمولي توتالي تحكمه ايديولوجيا عمياء او عن الاخ الاكبر المتلصص على جميع الافراد بحيث لا يلاحقهم في الحمامات وغرف النوم فقط، بل يسيل من صنابير المياه، وقد يحول المرايا الى كمائن زئبقيّة بحيث ينبثق منها اثناء حلاقة الذقن، في هذه الايام بالتحديد تتجلى النبوءة الأورويلية سواء في كاميرات تحاصر المارة في المدن الكبرى او في التنصت الذي يمارسه الاخ الأكبر الرأسمالي لا الشيوعي في واشنطن، ولم يسلم من هذا الرقيب حتى دول وزعماء ومؤسسات، ولكي لا نذهب بعيدا مع اورويل الروائي سواء في رواية 1984 او في مزرعة الحيوان التي وجدت من يترجم رموزها على الفور بحيث يعثر كل شعب على خنزيره الخاص او على فيله، فإن ما كتبه اورويل من المقالات لم يكن استكمالا لمكانته او منجزه الروائي، فقد وصفه الناقد الامريكي ارفينج هوي بأنه اعظم كاتب مقالات في العالم بعد هازلت، وربما بعد جونسون كما جاء في مقدمة الكتاب الصادر حديثا لاورويل عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر وترجمه الى العربية علي مدن .
ان عنوان الكتاب وهو ‘لماذا اكتب’ يستدعي على الفور تلك العائلة من الاسئلة الجذرية التي غالبا ما تتشكل منها هواجس الثقافة وهو ما يسمى بالانجليزية عائلة الـواي، اي الاسئلة الخمسة، لماذا ومتى وأين ومن وكيف . ان سؤال الكتابة لا ينطلق بمفرده ما دام هناك متلقون وقراء، وكذلك ذاكرة تعج بالمشاهد والانطباعات الهاجعة فيها منذ بواكير الصبا، وقد نشر لاورويل كتابان فقط يضمان مقالاته خلال حياته، يقول اورويل ان ما كان يرغب به بالفعل هو ان يجعل من الكتابة السياسية فنّا، بحيث لا يجلس اثناء الكتابة ليقول سوف انتج عملا فنيا بل اكتب لأن هناك كذبة اريد فضحها، هذا هو بيت النشيد كله وليس فقط بيت القصيد، فالكتابة افتضاح، لأنها كشف او اعادة كشف كما يقول شيلر، ولا يعفي الكاتب الحقيقي حتى نفسه من هذا الافتضاح كما في المذكرات العارية التي كتبها امثال بشكرتسيف وروسو وشاتوبريان والقديس اغسطين، والتي يندر وجود ما يماثلها في الثقافة العربية باستثناء محاولتين تعرضتا للعقاب واحدة لمحمد شكري وهي الخبز الحافي والثانية للراحل سهيل ادريس، فكتابة السيرة الذاتية بهذا الاعتراف الافتضاحي للذات والاخر معا لها شروط صعبة اقلها الحرية ببعديها الشخصي والعام، وحين يغيب هذا الشرط يتحول كل شيء الى حفلة تنكرية تعج بالأقنعة والاصوات المستعارة . لأن الذات تتحول الى عورة، يجب التستر عليها واجراء جراحات بلاغية لاستئصال عفويتها وبشريتها الحميمة، كي تبدو معصومة .
* * * * * *
رغم ان كتاب اورويل حمل عنوان مقالة واحدة من بين تسع عشرة مقالة هي لماذا اكتب؟، الا ان مقالاته الاخرى بتنوعها وعمقها وجمالياتها تستحق التأمل، وهناك ثلاث منها على الأقل، لا يمكن لقارئها ان يمر بها وكأنها مجرد جيران او اقارب من الفقراء حول المقالة التي حمل الكتاب عنوانها .
يكتب عن الربيع الانجليزي بشكل آسر، فمن المعروف ان طائر السنونو هو ما يبشر بفصل الربيع، لكن هناك كائنا آخر يعيش في باطن الأرض هو ما يقول عنه اورويل بأنه اول من يستجيب للتحول، انه الذي ما ان يتحسس الدفء حتى تدب الحياة فيه ويسعى نحو اول ماء وكأنه كاثوليكي انجيليكي صارم يقترب من نهاية موسم الصوم، هذا الكائن هو العلجوم، والمفارقة في هذه المقاربة للطبيعة هي في استذكار التاريخ كمضاد لها، يتساءل اورويل امام هذا الكائن ذي العين الاشبه بحجر كريم وامام أرنبين بريين في حقل قمح ناشىء… من هم الاشخاص الذين يمكنهم ان يمنعوني من الاستمتاع بكل هذه المشاهد، فالربيع ما يزال هو الربيع، القنابل النووية تتراكم في المصانع وافراد الشرطة يطوفون عبر المدن والاكاذيب تتدفق عبر مكبرات الصوت لكن الارض ما تزال تدور !
هنا يقف التاريخ مقابل الطبيعة وفي العصيان البريء على التاريخ تولد الحرية …
المقالة الثانية التي تستحق التأمل قدر المتاح في هذه العجالة هي عن تولستوي وما قاله عن شكسبير، بحيث اصبح رأي تولستوي الشهير حول اعمال شكسبير امثولة في تاريخ النقد الادبي، لأنه لا يرى فيه كاتبا مبدعا، ويقول انه طالما شعر بالملل من قراءته، واعترف بأنني كنت ابحث عن مناسبة لاستذكار رأي تولستوي في اعمال شكسبير، فكان كتاب اورويل هو المناسبة، وذلك لاثارة سؤال طالما أرّقنا جميعا هو هل هناك ابقار مقدّسة في الأدب؟ وهل اغلق الباب الى الابد على منظومة من القيم تحرس الادب المقدس من النقد ؟
يقول تولستوي قد يكون شكسبير اي شيء تريد لكنه لم يكن فنانا، فهل لو جازف مبدع عربي بإبداء رأي حول المتنبي مثلا يقارب ما قاله تولستوي عن شكسبير يبقى طليقا ام يُرجم ؟
عبارة تولستوي تلك التي اوردها اورويل سبق ان قرأت ما يماثلها لسارتر في نقده لفرانسوا مورياك، عندما انتهى الى ان مورياك ليس فنانا على الاطلاق، ورغم الراديكالية المفرطة التي لا اميل اليها في مثل هذه الاحكام، الا انها تبقى ضرورية بين وقت وآخر لتلقيح القارىء ضد فقه التوثين واسدال القداسة على ما هو أرضي وبشري .
* * * * * * *
مقالة الشعر والمايكروفون تعيد طرح السؤال ذاته بعد سبعة عقود، فالشعر المسموع قد يحقق اضافات مؤقتة، لكنه لن يغيّر شيئا من جوهر النص، لهذا بعد ان نشرت مقالة اورويل بعقود دار سجال حول الاسلوب الذي يقرأ به شاعر مثل يفتشنكو قصائده، اذ يبدو أقرب الى الممثل يعينه على ذلك قامة مسرحية وصوت جهوري، لكن يفتشنكو ذاته قال يوما ان الشاعر في النهاية هو حصيلة نصوصه فقط، ولو كان اورويل حيا اليوم لرأى ما الذي ألحقه الفيديو كليب بمختلف الفنون، بحيث تخلى النص عن دور البطولة ليصبح مجرد كومبارس وغالبا ما تصرف القرائن المصاحبة للفنون ومنها قراءة الشعر عن الجوهر الى اشياء اخرى مضافة كالشعر الصناعي او الباروكة الى النصّ الأصلع …
* * * * * * *
بالعودة الى سؤال الكتابة او لماذا يكتب اورويل، فإن الكتابة اقرب ما تكون الى القدر، لأنه هو نفسه حلم بها في صباه ثم حاول الفرار منها فلم يستطع ، اما دوافع الكتابة على اختلاف منسوبها بين كاتب وآخر فهي كما يقول اورويل اربعة، حب الذات ورغبة الانسان في ان يبدو ذكيا وراغبا في الخلود والحماس الجماعي وادراك الجمال في العالم الخارجي والحافز التاريخي، وهو الرّغبة برؤية الاشياء كما هي، او ما سماه هو نفسه هاجس الافتضاح، واخيرا الدافع السياسي لكن بأشمل معنى ممكن، وهذا ما عبّر عنه كتّاب ومبدعون على امتداد الأزمنة بجملة تتقطر فيها المعرفة وبعدها الاخلاقي، هي شهوة اصلاح العالم .
اخيرا، ان ما تنبأ به اورويل غيّرت بوصلة التاريخ اتجاه سهمه، فالاخ الاكبر ليس ماركسيا وزمن تحقق النبوءة هو ايامنا هذه من عام 2013 وليس عام 1984 !!!!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حفيظ دهامشي \الجزائر:

    أمتعتما كعادتك استاذ خيري منضور,,,,مقالاتك خقول معرفة دائمة الخضرة زاهية الأاوان,,,,حديثك عن أورول زادني رغبة في مطالعة أعمال هذه القامة الأذبية ,,,و حسب الأذيب قامة أم يثير الرغبة في الأطلا على قامات أخرى,,,إد لا يعرف قذر الكبار إلا كبير مثلهم,,,,,لك خالص الشكر من قارئك العابر حفيظ,,,,,,,

  2. يقول حفيظ دهامشي \الجزائر:

    معذرة عن بعض الأخطاء غير المقصودة في تعليقي,, و التي قد تغير معاني بعض الكلمات بشكل سيئ,,,,شكرا

إشترك في قائمتنا البريدية