جوزيبي أونغاريتي والبراءة الضائعة لمحمد شهاب

إيزابيل فيولانطي
حجم الخط
0

ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف

ولد جوزيبي أونغاريتي عام 1888 في مدينة الإسكندرية لأبوين إيطاليين. توفي أبوه إثر حادثة عمل في شركة قناة السويس البحرية، فيما تكفلت أمه التي كانت تملك مخبزا بتربيته. تشبع أونغاريتي بالسياق الكوزموبوليتي لمدينة الإسكندرية، واشتد ولعه بالآداب الفرنسية تحديدًا. وفي عام 1912 غادر الشاب جوزيبي الإسكندرية، ليلتحق بصديق طفولته وصباه محمد إبراهيم شهاب بقصد الدراسة في جامعة السوربون. بيد أن محمد شهاب، الذي لم يتمكن من التأقلم مع واقع وتبعات الإقامة في العاصمة الفرنسية باريس، لم يلبث أن وقع نهبا لاكتئاب حاد، انتهى بإقدامه على الانتحار في التاسع من سبتمبر/أيلول عام 1913.
شارك أونغاريتي في الحرب العالمية الأولى بوصفه جنديا. وسوف يتذكر سنة 1916 في غمرة الأهوال صديقه الراحل، ويكتب بتأثير ذلك قصيدته الرائعة in memoriam التي حظيت باستقبال جيد، وترجمت إلى لغات عالمية عدة. لعل النقطة السوداء في سيرة أونغاريتي تتمثل في ميوله السياسية المحافظة، التي أسفرت عن التحاقه بحزب بينيتو موسوليني، وتوقيعه على عريضة 1925 الخاصة بالمثقفين الإيطاليين الفاشست. وقد ترتب عن ذلك طرده من جامعة روما، التي كان يعمل بها أستاذا للأدب الإيطالي.
تسعى الباحثة الفرنسية إيزابيل فيولانتي، التي أعدت أطروحة جامعية عن جوزيبي أونغاريتي، التي تعمل أستاذة للآداب الإيطالية والبرتغالية في جامعة باريس السوربون، إلى الاقتراب من تفاصيل هذه الصداقة التي سوف تتحول بقوة الشعر إلى أسطورة. وعلى الرغم من المظهر التراجيدي لهذه الحكاية لقصيدة، التي ذهب البعض إلى اعتبارها تمثيلا للقاء الشرق والغرب، إلا أن اقتراح ترجمتها إلى اللغة العربية، يبقى موصولًا بالرغبة في تسليط الضوء على التبعات الشعرية لهذه الصداقة ،ونهايتها المأساوية، وتأثيرها في التجربة الشعرية لأونغاريتي بمختلف تحققاتها.

النص

في التاسع من سبتمبر/أيلول عام 1913 في حوالي الساعة السابعة صباحا توفي محمد شهاب بن إبراهيم شهاب والسيدة عائشة، الذي رأى النور في مدينة الإسكندرية في مصر في الثالث والعشرين من شهر يناير/كانون الثاني عام 1887 والذي كان يشتغل قيد حياته محاسبا، والذي لا نتوفر على معلومات أخرى بصدده، باستثناء كونه أعزب، في مقر إقامته في 5 شارع لي كارم في باريس. حُرر عقد الوفاة في العاشر من سبتمبر في تمام الساعة الثالثة بعد الزوال، إثر تصريح السيدة ماري جوندر مالكة الفندق البالغة من العمر سبعا وثلاثين عاما والمقيمة في 5 شارع لي كارم والسيدة ماري راينال، التي تبلغ من العمر ثمانية وثلاثين عاما، والتي تشتغل خادمة في الفندق نفسه، والمقيمة في 19 زنقة كلو بروساي. ووقع العقد بمعيتنا السيد أدوارد لونغران مساعد عمدة الدائرة الخامسة في باريس.
يوثق هذا العقد المحفوظ في بلدية الدائرة الخامسة في باريس لتفاصيل وفاة مواطن مصري في باريس قبل مئة عام. سوف تشكل البساطة المليئة بالأسى لهذه المأساة، التي تتمثل في انتحار شاب في مقتبل العمر، مادة خصبة لقصائد وصفحات خطتها أقلام أصدقاء وشهود على المأساة، سوف يستبطنون من الآن فصاعدا ظله.
كان محمد شهاب قد غادر الإسكندرية قاصدا باريس في عام 1912، وسرعان ما سوف يلتحق به صديقه جوزيبي أونغاريتي المولود في الإسكندرية، لأبوين إيطاليين. سوف تربطهما صداقة جميلة منذ فترة مراهقتهما في ثانوية سويس جاكو في الإسكندرية، حيث سيتقاسمان الاكتشاف المحموم لشارل بودلير وفريدريك نيتشه. وسوف يغادران معا الإسكندرية المدينة الكوزموبوليتية والفرنكوفونية كي يتابعا دراستهما في باريس. وسوف يعثران على غرفة مفروشة في 5 شارع لي كارم على بعد خطوات من جامعة السوربون. سوف يجربان معا تجربة مغادرة الوطن والمنفى. سوف يكتب أونغاريتي بعد انصرام خمسين سنة على هذا التاريخ، وقد أصبح واحدا من أشهر وأكبر شعراء إيطاليا: كان محمد شهاب منفيا في فرنسا، وكنت منفيا في مصر. كنت بعيدا عن بلادي وعاجزا عن أن أغرس جذوري في أي مكان. وهذا ما حدث مع محمد شهاب.. كانت ثقافته مختلفة عن ثقافتي. ولَم يعد وهو في فرنسا رجلا ينتمي إلى بلده ووسطه الاجتماعي.
وفيما كان أونغاريتي الشاب يبدع مشاريعه، وفِي مقدمتها دراسة الحقوق في جامعة السوربون، ودراسة الفن في مدرسة اللوفر، ونسج العلاقات الأدبية وزيارة بيغوي وبورج وقراءة المجلات الأدبية، واللقاء بالشاعر غيوم أبولينير، الذي سينسج معه صداقة حقيقية إبان الحرب العالمية الأولى، كان محمد شهاب يغرق في عزلته، ويهجر دروس الحقوق في السوربون، ويكتفي بكسب لقمة العيش بوصفه محاسبا.
وفِي أحد النصوص الشعرية التي أهداها للشاعر السيريالي الفرنسي أندري بروتون كتب أونغاريتي: ما الذي جاء به إلى باريس وهو مفتقر إلى العائلة والحب والأصدقاء والأمل؟ منح شهاب لنفسه هوية فرنسية واسما فرنسيا: اختار لنفسه اسم مارسيل وقد الفى نفسه مبعدا ومنفياً ومقصى. لكنه لم يكن فرنسيا ولم يعد في مقدوره العيش تحت خيمة أسلافه وهو يصغي إلى الأغاني الشعبية والقرآن ويتلذذ بطعم القهوة.
أفلح أونغاريتي في المقابل في الاستفادة من منفاه وشرع في الكتابة في البداية باللغة الفرنسية، قبل أن يختار الكتابة باللغة الإيطالية. وسيجعل من صديقه الراحل ظلا أو ضعفا له وبطلا للعديد من قصادئه. ونمثل لذلك بقصيدة «كالومي» التي اشتمل عليها الديوان المخصص لتجربة الحرب:
أعرف بلادا
تخدر فيها الشمس العقارب
هناك فقط نام هذا الحمل الذئب
وحده لن يكون غريبا
في هذا الجو المشحون بالموت
هذا الحمل الذئب
وحيث كل مكان منفى
القصيدة ذاكرة. ويشير عقد الوفاة بدقة وبلغة عارية إلى الظروف والملابسات المادية المحسوسة، لاكتشاف الجثة، وبفصل بلغة إدارية رسمية ما سوف يعيد أونغاريتي اكتشافه وملاحظته، حين كان جنديا أثناء الحرب العالمية الأولى.
آه.. أرغب في أن أنطفأ مثل
قنديل في تباشير الصباح الأولى
عند السابعة صباحا، أو كما يؤكد عقد الوفاة، أو كما جاء في قصيدة أونغاريتي
رافقته صحبة ربة الفندق
من حيث كنّا نقيم في باريس
في 5 شارع لي كارم
درب باهت ذو انحدار
يتضمن عقد الوفاة اسمي المرأتين. ماري راينال زوجة السيد كوستوروس التي تعمل خادمة في الفندق، وماري جوندر زوجة السيد ريوف مالكة الفندق وكانتا باكيتين من فرط الانفعال الذي لن يعقبه انبعاث إلا في القصيدة
يرقد في مقبرة إيفري
وهي ضاحية تبدو
أنها كفت عن الحياة
في اليوم
الذي انتهى فيه الاحتفال
ووحدي من يعرف
إنه كان حيا يرزق
هكذا تستشرف قصيدة للذكرى نهايتها. وأثناء الكتابة الأولى للقصيدة في غمرة الحرب العالمية الأولى وسط الخنادق سيضيف أونغاريتي ما يلي:
سأحيط علمًا بذلك
إلى أن يحين دوري وأموت..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية