بعد حوالي سنوات أربع من انطلاق مسار مباحثات آستانا في مدينة سوتشي الروسية التي بدأت في كانون الثاني/ يناير من العام 2017 واختتمت جولات ماراتونية سبع في نفس ذاك العام، ثم تلاها جولات تسع خلال السنوات الثلاث الماضية، كان آخرها الجولة السادسة عشرة التي عقدت في السابع والثامن من هذا الشهر في العاصمة الكازاخية نور سلطان.
سنوات أربع لم تقدم شيئا يذكر للشعب السوري المتطلع إلى حل سياسي ينهي حقبة نظام الأسد السوداء، وعودة الاستقرار إلى ربوع سوريا تحت رعاية أممية بتطبيق القرار الأممي 2254 الذي تم التصويت عليه في 30 حزيران/يونيو من العام 2015 والذي تضمن أن الشعب السوري هو من سيحدد مستقبل سوريا، وإجراء مفاوضات للانتقال السياسي ذي مصداقية بين النظام والمعارضة.
مع أول قصف للطيران الروسي في سوريا في 30 أيلول/ سبتمبر لمواقع المعارضة السورية، بعد طلب نظام الأسد من روسيا التدخل العسكري خشية سقوط النظام الذي كان قاب قوسين من السقوط، عمل الروس على نسف مقررات جنيف واستحداث مسار آستانا، ليس لصياغة حل تكون فيه الكلمة للشعب السوري برسم مستقبله السياسي والاقتصادي، لكن لإدخال المعارضة في عملية تسويفية لكسب الوقت بانتظار أن يسترد النظام كل المناطق المحررة من المعارضة وفرض سيادته عليها بدعم من روسيا وإيران.
الدول الضامنة (روسيا وإيران وتركيا) ومنذ الجولة الأولى توافقت على إنشاء آلية ثلاثية لمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار. لكن النار لم يتوقف يوما واحدا منذ ذاك التاريخ، وفي كل جولة يعاد رسم خرائط المناطق المحررة حسب آخر كر وفر على الميدان، مع إصدار بيان الدول الضامنة المكرر: «الالتزام بسيادة سوريا واستقلالها ووحدة وسلامة أراضيها» مع التشديد على ضرورة احترام هذه المبادئ من كل الأطراف. وعلى أرض الواقع لا أحد يحترم هذه المبادئ، فسوريا غير مستقلة، ومجزأة.
ركزت روسيا منذ البدء على مشكلة « الإرهاب» وخصت محاربة كل من «داعش» و« تحرير الشام « (النصرة سابقا) كمحاولة لتحيد الأنظار عن قصفها للمدن والبلدات التي تتواجد فيها معارضة مسلحة لا تمت بصلة لهاتين المنظمتين باسم الإرهاب، لأنه في واقع الأمر من كان يقاتل «داعش» هي قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بدعم أمريكي (التحالف الدولي) وروسيا لم تدخل في معارك مع «داعش» إلا في مناطق محدودة جدا كالبادية السورية حيث نشطت فيها «داعش» مؤخرا وهي مناطق فيها تواجد روسي. أما جبهة «تحرير الشام» فمواقعها في منطقة إدلب محصنة وتقدم نفسها على أن لا صلة لها بالإرهاب، ولم تنجح قوات النظام والقوات الروسية من اقتحام مواقعها. ومطالب ضمان وقف إطلاق النار لم يكن سوى حبر على ورق سرعان ما انتهك ولا يزال.
عمل الروس على نسف مقررات جنيف واستحداث مسار آستانا، ليس لصياغة حل تكون فيه الكلمة للشعب السوري برسم مستقبله السياسي والاقتصادي، لكن لإدخال المعارضة في عملية تسويفية لكسب الوقت
لعبت المعارضة السورية التي كانت تشارك في هذه الجولات دور «إثبات الحضور» والتذكير بثوابت الثورة السورية، كوفود الجامعة العربية التي تذكر دائما في بياناتها بحقوق الشعب الفلسطيني، وتخرج وفود المعارضة السورية، التي تختلف تشكيلاتها في كل مرة حسب نتائج آخر صراع فيما بينها، خاوية الوفاض، أي تعود « بخفي حنين» إذ لم تستطع أن تفرض أي وجود على مدار المباحثات، ولم تحقق أي مطلب من مطالبها. (وقف إطلاق النار، تخفيف معاناة السوريين تحت الحصار، الإفراج عن المعتقلين، انتقال سياسي ينهي سيطرة النظام استنادا إلى القرارات الأممية) خاصة وأن الدول الضامنة لا تعاملها كممثلة للشعب السوري، أو الثورة السورية، خاصة وأن البدايات كان التمثيل يضم وجوه المعارضة المسلحة كجيش الإسلام، والجيش الحر وسواهما، ثم اختفت معظم هذه الوجوه، ليحل محلها وجوه أخرى و بعض أعضاء الإئتلاف الوطني. وحتى الشعب السوري لا يعتبر هذه المعارضة تمثله، وهي تعي ذلك وتتصرف حسب أجندات داعميها من قوى خارجية. في حين أن وفد النظام بقي محافظا على هيكله. وهذا الوضع يريح الدول الضامنة وخاصة روسيا التي تتحدث باسم سوريا نظاما وشعبا..
في الجولة الثالثة (14 آذار/ مارس 2017) من ماراتون سوتشي تقدمت روسيا باقتراح وضع دستور جديد للبلاد بعد أن توضح من الجولات الأولى أن باب الحل السياسي قد أغلق تماما في وجه المعارضة بسبب تسويف وفد النظام، ودعم موسكو موقف دمشق. وقد تم تشكيل «اللجنة الدستورية السورية» برعاية مبعوثي الأمم المتحدة، لكن على مدار جولات خمس لم تحقق الوفود أي تقدم يذكر بهذا الجانب، الذي كان مرسوما له أن يبقى مراوحا في المكان، فدستور جديد يطالب بعملية ديمقراطية، وانتخابات، ومعارضة مستقلة، وأحزاب سياسية، ومؤسسات، ومجتمع مدني.. يعني ببساطة إسقاط النظام القائم، وعليه لا بد من الإبقاء على «خفي حنين» ليحملهما وفد المعارضة ويعود بهما.
آخر جولة كانت الجولة السادسة عشرة، وليست الأخيرة إذ تم الاتفاق على متابعة مسيرة الماراثون بجولة سابعة عشرة في نهاية هذا العام في نفس المكان (في العاصمة الكازاخية نور سلطان). كانت هذه الجولة كأخواتها السابقات لم تأت بجديد، بل بمتابعة فن السير «مكانك راوح» في بيانها الختامي جاء «اتفقنا على مواصلة التعاون من أجل القضاء النهائي على داعش، وهيئة تحرير الشام، وجميع الأفراد، والجماعات والمؤسسات والمنظمات الأخرى المرتبطة بالقاعدة، أو داعش.. والجماعات الإرهابية الأخرى المعترف بها على هذا النحو من قبل مجلس الأمن الدولي» وهذا المطلب كان مطلبا منذ بداية الجولة الأولى، وهو مطلب يصب في مصلحة الدول الضامنة قبل كل شيء. وتبقى مطالب الشعب السوري الذي بات ثلثه لاجئا، وثلثه الآخر نازحا، وثلثه الثالث تحت سيطرة النظام.
كاتب سوري