«جولة كبرى» للبرتغالي ميغيل غوميز: الدنيا على جناح يمامة

نسرين سيد أحمد
حجم الخط
0

لندن ـ «القدس العربي»: أحيانا تسرد لنا الصورة ما ليس في وسع الكلمات أن تقوله، بل أحيانا يصبح السرد أمرا ثانويا مقارنة بسحر الصورة التي نراها على الشاشة. تحملنا الصورة إلى عوالم أخرى وتحلق بنا في أرجاء لم نزرها قط، وتحملنا على أجنحة من خيال خصب. هذا السحر الذي تخلقه السينما هو ما يقدمه البرتغالي ميغيل غوميز في فيلمه «جولة كبرى» الذي شاهدناه في المسابقة الرسمية لمهرجان كان لهذا العام. «جولة كبرى» فيلم قليل الكلام، يندر فيه الحوار، لكنه يأسرنا في عوالمه الساحرة، وإن كنا نبقى حتى منتصف الفيلم تقريبا حتى نفهم سرديته بتسلسل زمني واضح.
كما هو الحال في فيلمه «ألف ليلة وليلة» بأجزائه المختلفة، يقدم لنا غوميز فيلما ملحميا، يجوب فيه البلدان، ويعبر فيه الأزمان، ويختلط فيه الروائي والوثائقي، وأحيانا لا يهم فيه ما يقال بقدر ما يعنينا كيف يُقال. كثيرا ما نحلم بشرق آسيا كمكان مفعم بالحياة والحركة والألوان، وعبق الزهور الاستوائية، والجو الحار الذي ينضج فيه الحب وتصخب فيه الرغبات، وهذا الحلم هو ما يقدمه لنا غوميز في «جولة كبرى». في «جولة كبرى» يصحبنا غوميز في رحلة تبدأ بأنغون في بورما إبان الاحتلال البريطاني، ثم إلى سنغافورة، ثم إلى الفلبين، ثم إلى تايلند، وفيتنام، واليابان والصين. جولة ساحرة، اختار لها غوميز أن تكون بالأبيض والأسود، ما يزيد من الشجن الذي يثيره الفيلم.
تدور أحداث الفيلم حول الموظف البريطاني إدوارد، الذي يعمل في خدمة الإمبراطورية البريطانية، والذي لا يحمل معه إلا حلته المصنوعة من الكتان، ويستقل سفينة عبر مدن آسيا، في محاولة للفرار من خطيبته مولي، التي أراد فجأة التملص منها ومن خطبتهما التي دامت أعواما حين أدرك أنها في طريقها إلى آسيا للحاق به والزواج. تبدأ هذه الرحلة في بدايات القرن العشرين، ونخال في بادئ الأمر أن بطلها هو إدوارد، لندرك لاحقا إن بطلتها الحقيقية هي مولي، التي تعيش الرحلة قلبا وعقلا وروحا، بل إن سنواتها على الأرض ترتبط بعمر هذه الرحلة.
نعيش الرحلة رويدا رويدا عبر التعليق الصوتي للراوي، الذي يسرد القصة على أجزاء متتبعا خطى إدوارد ومولي في البلدان المختلفة، ونرى أحداث الفيلم كما كان المرتحل سيراها في أوائل القرن العشرين، ويتخلل ذلك ومضات من هذه المدن والبلدان في وقتنا الحالي في القرن الحادي والعشرين، وهكذا ينقلنا غوميز بين الروائي والوثائقي في طرفة عين. ربما أراد غوميز بهذه اللقطات التوثيقية لبلدان ومدن شرق آسيا أن يبتعد عن المنظور الغرائبي الإكزوتيك للشرق الأقصى، فنحن نرى الشرق الأقصى، كما رآه المرتحل الغربي قديما، ونراه دون تلك النظرة الغرائبية حاليا.
ربما تكون الرحالة الحقيقية في هذا الفيلم هي مولي، بوجهها البشوش، وضحكتها الهازئة التي تسخر بها من كل الصعاب في طريقها التي تحول بينها وبين حبيبها إدوارد. نرى الرحلة عبر عيون مولي ومن قبلها نتبع خطى إدوارد، ونحلق في عالم الرحلة، التي تغدو رحلتنا نحن أيضا في تلك الأصقاع البعيدة التي لم نرها من قبل. يتبع الفيلم في نصفه الثاني مسارا أكثر انتظاما من نصفه الأول، وبعد أن ركز على منظور إدوارد في نصفه الأول، يركز على منظور مولي ورحلتها في نصفه الثاني. رغم إصرار مولي على اقتفاء أثر حبيبها حتى تعثر عليه، ورغم تفاؤلها واقتناعها بأنها ستتخطى صعاب الرحلة، إلا أننا نشعر ببعض من الشجن المصحوب بحزن دفين، كما لو أن مولي تشعر بأن نهاية هذه الرحلة تمثل نهايتها هي أيضا.
على الرغم من تلك الرحلة الساحرة في أرجاء الشرق الأقصى، ومن قصة الحب تلك التي تسافر فيها فتاة إلى أقاصي الأرض للقاء حبيبها، إلا أن ثمة شعورا بالحزن يخيم على الأجواء، فبعد خطبة طالت، وأعوام من الانتظار لماذا قرر إدوارد البعد؟ ولماذا قررت مولي اللحاق به؟ يخامرنا شعور بأن الحب مغامرة غير محسوبة العواقب. كما يخامرنا شعور أيضا بأن الرحلة ذاتها غير محسوبة العواقب. إنه عالم ضخم واسع مربك في بعض الأحيان، ونحن نسلك مسارنا فيه دون هدى في بعض الأحيان. يتركنا الفيلم مع ذلك الشعور بأننا قد نرتحل ونغامر، لكن ما نجنيه من سعادة قد لا يوازي ما بذلناه من جهد في الارتحال.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية