لم يكن لبوريس جونسون أبداً أن يصل إلى هنا – ملكاً غير متوج لمملكة الإنكليز، بأغلبيّة مطلقة منحته صلاحيّات لا نهائيّة، لإعادة تشكيل البلاد وفق أجندته وكما يحلو له – لولا الإعلام البريطاني المتلفز، وعلى رأسه «بي بي سي»، فهذه الأخيرة، وإن كانت جدلاً مؤسسة وطنيّة عابرة للأحزاب – تتلقى تمويلها من المواطنين مباشرة على شكل ضرائب سنويّة لا يعفى منها سوى العميان ومن تجاوزت أعمارهم الخامسة والسبعين – فإنها قدّمت أكثر تغطيّة منحازة لخط جونسون، وجازفت بكل رصيد للمصداقيّة أو المناقبيّة المهنيّة كي تُغرق المواطنين بكم مهول من الوعي المزيّف المعلّب، يتناولونه قبل وبعد الوجبات اليوميّة، وغايتها أن تبعدهم عن مرشح حزب العمال المعارض وبرنامجه لمصلحة اليمين المتطرّف ونجمه الأشقر غريب الأطوار جونسون.
لكّن «براقش» البريطانيّة لم تدر أنّها بذلك كمن يحفر قبره بأظافره. فتصفيّة القطاع العام والمؤسسات الوطنيّة وتقطيع أوصالها وخصخصتها لمصلحة حفنة من القطط السّمان، هي خلاصة الفكر الاقتصادي لتيار الشعبويّة الشوفينيّة، الذي يقوده رئيس الوزراء البريطانيّ الجديد – الأمر ذاته على الجانب الآخر من الأطلسي ممثلا في تيّار ترامب – وها هي سيوف الذّبح الأيديولوجي قد أشرعت بالفعل تجاه مؤسسة الإعلام الأكبر في أوروبا، والتي تطاردها أصلاً وحوش أخرى كثيرة أنهكتها، وتكاد تفترسها اليوم قبل الغد.
نظريّة الدّولة الرشيقة
هناك بالطبع خلافات وصراعات وتبادل شتائم عالي النبرة في الغرب أجمعه، بين السياسيين الشعبويين الشوفينيين اليمنيين، وزملائهم الليبراليين أنصار العولمة والانفتاح.
وقد بلغ التباعد بين الطرفين حده الأقصى بعد العام 2008، عندما استغل الشعبويون الأزمة المالية العالمية الناشبة حينها لاتهام التيار الليبرالي الممسك بالسّلطة بسوء الإدارة، والفشل في التعامل مع الأزمة، وخنق المواطنين العاديين عبر سياسات التقشف القاسية. وهم نجحوا لذلك في كسب تعاطف الناخبين الغاضبين، والذين منحوا الشعبويين دعماً انتخابياً غير مسبوق أوصل رموزهم إلى السلطة ومواقع التأثير وصنع القرار في غير ما بلد: من بولندا إلى بريطانيا، ومن هولندا إلى إيطاليا، وتالياً إلى الولايات المتحدة التي انتخب شعبها عام 2016 رئيساً من خارج دائرة العمل السّياسي المحترف.
لكن رغم تلك الخلافات العلنيّة وتنازع السّلطة بين الجانبين، فالحقيقة الباردة هي أن الطرفين متفقان بشكل كبير حول ماهيّة النظام الاقتصادي للدّولة: دولة (زومبي) باهتة يقتصر دورها على توفير الحماية الأمنيّة لنشاط رأس المال الخاص، ويعاد ضخّ الدّماء فيها فقط عندما تلمّ الخطوب الماليّة العاصفة فتقوم حينها بتوظيف أموال دافعي الضرائب لإنقاذ البنوك المفلسة نتيجة مضارباتها بهلوانيّة في الأسواق الماليّة.
جونسون وفريقه لهم التصوّر ذاته عن دور الدّولة في بريطانيا ما بعد بريكست: دولة رشيقة بدون قطاع عام، تسنّ قوانين صديقة لرؤوس الأموال، وتفرض ضرائب رمزيّة على الأرباح، ولا تطرح أسئلة كثيرة حول مصادر الاستثمارات الواردة إلى البلد.
ولم يخف هذا الفريق طموحه لتصفيّة آخر معقلين للقطاع العام بعد خصخصة كل شيء تقريباً في المملكة المتحدة منذ بداية نيوليبراليّة تاتشر / ريغان في الرّبع الأخير من القرن الماضي: هيئة الصحة العامّة، التي تدير واحداً من أفضل الأنظمة الصحيّة في العالم، و»بي بي سي». ويقول العارفون بدواخل العمل في كواليس مكتب رئيس الوزراء إن التوجه الغالب الآن هو تقطيع أوصال المؤسستين، والسماح بدخول المستثمرين – الأمريكيين أساساً – لإدارة تقديم الخدمات التي كانت منوطة بهما وفق النّموذج الأمريكي في الصّحة والإعلام.
ونقل عن بعض هؤلاء القول إن العقد المقبل الذي ستهيمن عليه سياسات جونسون، سيكون الأصعب تاريخياً على «بي بي سي»، وربما يكون بمثابة نهاية رحلتها بعد عمر مديد.
أوجاع العمر: أزمات «بي بي سي» الكثيرة
لعبت «بي بي سي» منذ تأسيسها عام 1922 أدواراً هامّة في خدمة بروباغاندا الدّولة البريطانيّة العميقة، ودعمت دون تردد مجهودها العقائدي والسياسي والحربيّ والاستخباراتي عبر العقود المتعاقبة، وشاركت في صياغة عقل غالب الجمهور البريطاني – وجمهورها عبر البحار – لما تحبّه النخبة الحاكمة، وترضاه. وهي لذلك كوفئت بكل دلال ومن جيوب المواطنين مباشرة، الذين ينبغي أن يدفعوا ضريبة سنويّة لها أو يُجرّمون ويُغرّمون بآلاف الجنيهات إن هم تخلّفوا، وأصبحت شيئاً فشيئاً كما أيقونة بريطانيّة أخرى تؤكد في عقول الأهالي أوهام التفوّق وجنون عظمة الأمّة الإنكليزيّة المتوارثة. لكن شيئاً ما تبدّل في أقدار هذه المؤسسة منذ بداية القرن الحادي والعشرين، لا سيّما بعد ظهور شبكة الإنترنت التيّ غيّرت خلال عقدين فضاء العمل الإعلامي في الكامل، وتمخضت عن تراجع ملموس لنموذج التلفزيون التّقليدي لمصلحة صعود متسارع لصيغ عمل بديلة ومنصات أكثر عصرانيّة بهدف عرض المواد البصريّة والفنيّة مثل (نيتفليكس وأمازون فيديو وإتش بي أو وغيرها)، كما تلك التطورات الهائلة في تكنولوجيا الكمبيوترات الشخصيّة والهواتف الذكيّة والألواح المتنقلة. ودفعت «بي بي سي» ثمناً هائلاً من رصيدها عند الجمهور إبّان أزمة فقدان الثقة بمصداقيّة بيوتات الإعلام الكبرى عبر العالم الغربي، لا سيّما خلال مرحلة الحروب القبليّة الثقافيّة، التي أطلقتها الأزمة الماليّة العالميّة وتطوراتها السياسيّة والاجتماعية على جانبي الأطلسي، كما تراكم فضائح الأخبار الكاذبة والانحيازات المطلقة لسرديّات مؤدلجة، تورطت بها تلك البيوتات دائماً على حساب الحقائق أو الوقائع.
وقد أدخلت «بي بي سي» نفسها تالياً طرفاً في خضّم حرب «بريكست» الأهليّة، فمحضت اليمين – الساعي للانعزال والخروج من الاتحاد الأوروبيّ – دعماً صريحاً على حساب اليسار على نحو تسبب في شكاوى ضدّها بعشرات الآلاف، وقضايا في المحاكم من قبل المعارضة لتشويهها المتعمّد لمواقف زعمائها.
تراكم كل هذه الأوجاع السياسيّة والتكنولوجيّة وانعكاساتها الماليّة لحقته كذلك مصاعب إداريّة وفضائح أخلاقيّة – ربما تحدث مثلها في كل مؤسسة كبرى، لكنّها دائماً تأخذ أبعاداً أكبر لدى صانعي الأضواء فكيف عند أكبرهم؟ ومنها مسألة التفاوت الممنهج في الدّخول بين الرّجال والنساء عند تأدية العمل ذاته.
هل هو القدر المحتّم؟
سياسات «بي بي سي» وطريقة تغطيتها المنحازة لم تبق لها كثيراً من الأصدقاء، وتصعب فعلاً مهمّة الدّفاع عنها في وجه تغوّل اليمين.
وهناك بالفعل أعداد غير مسبوقة من المواطنين الذين توقفوا عن دفع ضريبة التلفزيون السنويّة بحجة أنهم لم يعودوا في حاجة إليها، وأنهم يتلقون المعلومات والترفيه من مصادر أخرى غيرها، ذات تكلفة أقل وخدمات أفضل. كما أن استطلاعات الرأي تكشف عن تراجع مقلق في إقبال جيل الشباب على متابعة قنواتها مقارنة بالأجيال الأكبر سناً.
ومع ذلك فإن هذه المؤسسة الهائلة والعريقة ما زال لها رصيد مقبول في أذهان سكان الجزيرة البريطانيّة، وهم ما برحوا يعودون إليها في الأحداث الوطنيّة الكبرى كالانتخابات والأعراس الملكيّة قبل أيّ من القنوات الأخرى، ويمكنها بسهولة استرداد قطاع رئيسي ممن انفضوا عنها إن هي تركت انحيازها السياسيّ الفاجر، وجبنها الأخلاقي لناحية تغطية أحداث العالم (فمثلا هي تتجنب إبراز المظاهرات الشعبية في الجارة الفرنسية بينما تكثف تغطيتها عن مظاهرات فنزويلا، وتنحاز للرواية الإسرائيلية بالكليّة على حساب الفلسطينيين …). وهي ستجد في نهاية المطاف أن ذلك دواء علقماً لا مفر من ازدراده، ليس من أجل العدالة الموهومة ومصداقيّة العمل المهني بل – على الأقلّ – من أجل استمراريتها الذاتيّة في مواجهة نوايا جونسون السافرة.
٭ إعلامية وكاتبة لبنانية بريطانية
تحليل دقيق لما يدور في العالم الانكليزي للتضيق الاعلام وفرض سيطرة الاعلام اليميني ووجهة نظره والتي تشكك في كل ما يتعارض مع الشعبويين،وهذا ما تحدث عنه رئيس وزراء أستراليا السابق مالكوم تيرنبول البارحة مسمياً مؤسسة نيوز كورب لصاحبها القطب الأعلامي روبرت مردوخ
بمناسبة كلام غادة السمان عن الواقع المزري للعربية في الإعلام :
“وهي ستجد في نهاية المطاف أن ذلك دواء علقماً ”
والصحيح :
“وهي ستجد في نهاية المطاف أن ذلك دواءٌ علقمٌ”
!!!