قد يبدو البون بين مفاهيم النظرية الأدبية الكلاسيكية ومفاهيمها ما بعد الكلاسيكية طبيعياً، من زاوية ما تشهده مرحلتنا العولمية من تداخل بين العلوم وعابرية في التخصصات، وهو ما يفتح أمام هذه النظرية مجالات كثيرة، بعضها بكر استباقي وبعضها الآخر مطور من نواح مستحدثة وجديدة.
وتعد المدرسة الأنكلوأمريكية الأكثر اهتماماً والأشد سعياً إلى الاتجاه بالنظرية الأدبية نحو الخوض في مجالات معرفية جديدة، وتهيئة مستلزماتها المطلوبة والضرورية. ومن نقاد هذه المدرسة الذين أفادوا من التعدد في التخصصات والدراسات العابرة للثقافات ديفيد هيرمان، الذي استمد من علم النفس الإدراكي أطروحته حول السرد الإدراكي أو المعرفي لاسيما في كتابه (منطق القصة story logic) ومنه أفادت مونيكا فلودرنك في كتابها «نحو علم السرد الطبيعي» Towards a natural narratology كما فتح الباب لأربعة نقاد هم: جان البر وبراين ريشاردسون وهنريك نيلسون وستيفان أيفرسن للتنظير لمفهوم علم السرد غير الطبيعي، إلى جانب ما وضعه الصيني بيو شانغ حول السرد المقارن وعلم السرد الصيني، وغير ذلك من الأسماء النقدية ذات الرؤى والتصورات متعددة الاتجاهات.
وفي إطار الاهتمام بالتعدد والتداخل، وجّه الناقد الأمريكي والأستاذ في جامعة واشنطن جون هيغلوند Jon Heglund اهتمامه في دراسة السرد غير الطبيعي نحو علم الايكولوجيا والمادية البيئية فكان كتابه «الميتاجغرافية في السرد المعاصر»2012 جديدا في ميدانه، وواصل الاشتغال على الأيكولوجية في دراساته الأخرى ومنها دراسته المنشورة ضمن كتاب (البيئة والسرد: اتجاهات جديدة في السرد الأيكولوجي Environment and narrative : new directions in eco narratology ) بتحرير أيرن جيمس واريك موريل، الصادر عن مطبعة جامعة أوهايو عام 2020، والموسومة بـ(علم السرد غير الطبيعي والواقعية العجيبة تمثيلا على رواية (إبادة) لجف فاندرمير) ويصب موضوعها في باب النقد الايكولوجي، الذي يعنى بدراسة النظرية السردية وعناصر السرد، كالزمان والمكان والوصف والتبئير، في ضوء تأثيرات البيئة وربط ذلك كله بالنظرية الماركسية والنسوية ودراسات ما بعد الاستعمارية، مما يحاول علماء السرد الإفادة منه في تحليل العلاقات الإنسانية، وتفسير أثر الكوارث البيئية فيها. وبالشكل الذي يوسِّع حدود النظرية السردية ويجعلها أكثر حساسية نحو قضايا المكان من ناحية علاقة النص بعوالمه الخارجية، وأثر الفضاء السردي في صناعة العالم جغرافياً.
صحيح أن للنقد الأدبي اهتماماً محورياً بالمكان غير أن النقد الأيكولوجي يهتم بالمكان بشكل أكبر، إذ يجعل منه موجهاً لتاريخ البشر بتحولاته التي تؤثر أخلاقياً فيهم، وتصنع سرديات غير طبيعية بتمثيلات غير آدمية.
وتقوم مفاهيم النقد الأيكولوجي على خلفية رفض المفاهيم الكلاسيكية في النظرية السردية، التي اهتمت بالبنيات اللسانية واللغوية والدلالية، مما طرحه جيرار جينيت في كتابه (خطاب الحكاية) التي أهملت المسائل القيمية والأخلاقية، التي صار السرد ما بعد الكلاسيكي يوسع اهتمامه بها. وهو ما اهتم هيغلوند به، فدرس تأثيرات السرد على قيم الواقع الموضوعي وأهمية التواصل مع البيئة المادية، وعواطف القراء وقيمهم.
وقد أفاد هيغلوند في نقده الأيكولوجي من طروحات ديفيد هيرمان وجيمس فيلان، فضلا عن جبرالد برنس ودراسته لعلم السرد ما بعد الاستعماري، لكنه وجه انتقادات لمونيكا فولدرنك لأنها فسرت الطبيعية بوصفها محاكاة للتجربة الواقعية. وهو ما خالفها فيه ريتشاردسون وجان البر اللذان سلطا الضوء على المحاكاة بوصفها الحبكة التي موضوعها تجربة غير بشرية، وعلى ذلك بنى منظرو السرد غير الطبيعي مفاهيمهم ما بعد الكلاسيكية كاللاطبيعية والمحاكاة المضادة والسيناريوهات غير المنطقية للشخصيات والأزمنة والفضاءات المستحيلة التي لا وجود لها في العالم الحقيقي وتنتهك القوانين الفيزياوية للواقع الموضوعي.
صحيح أن للنقد الأدبي اهتماماً محورياً بالمكان غير أن النقد الأيكولوجي يهتم بالمكان بشكل أكبر، إذ يجعل منه موجهاً لتاريخ البشر بتحولاته التي تؤثر أخلاقياً فيهم، وتصنع سرديات غير طبيعية بتمثيلات غير آدمية.
والمميز في بينية هيغلوند النقدية هو هذه المزاوجة المعرفية بين النظرية السردية والنظرية الأيكولوجية، مطبقا مفهوم (الانثروبوسين) على قصص غير طبيعية (قصص غير بشرية Non Human Storytelling) علما أن مفهوم الأنثروبوسين ما زال غير معتمد عالمياً، سوى في الولايات المتحدة الأمريكية، ويطلق على العصر الجيولوجي الحالي كحقبة تاريخية، صار فيها للبشر تأثير كبير في جيولوجيا الأرض ونظمها البيئية.
وعلى الرغم مما أظهره هيغلوند من باع معرفي بعلوم البيئة وتغير المناخ ومستقبل البيئة والتحديات البيئية والجيولوجية، وتوسيع نطاقها من المحلية إلى العالمية، فإن هدفه تحدد في الوصول إلى رؤى جديدة تتعلق بتأثير البيئة في التعبير السردي عن القيم الأخلاقية والعلاقات الإنسانية، وأهمية إعطاء القارئ دورا مميزا في ما ينبغي عليه إدراكه عند قراءته للسرد غير الطبيعي، كبعض قصص فرانز كافكا وبارنز وخوليو كورتازار وقصص الأطفال، التي تعود إلى القرن التاسع عشر التي أبطالها غير آدميين.
هذه القصص التي وجد فيها هيغلوند مصدراً جديداً من مصادر التمثيل على السرد غير الطبيعي، تفتح الباب نحو مزيد من الدراسات البينية وعلى رأسها البيئة، التي يمكن الإفادة من علومها كعلم الإحياء التطوري والأيكولوجيا المادية في توليد نماذج جديدة تناهض المحاكاة، وتستعيض عن السراد غير الآدميين بالتركيز على المكان وسياقاته البيئية أي (السرد خارج إطار الإنسان) حيث صلة الإنسان بالبيئة عاطفية، وردود أفعاله جسدية في التفاعل مع قضايا البيئة المعاصرة والسياسات البيئية وأخلاقيات استدامة الحياة على كوكب الأرض.
واستند هيغلوند إلى مقولة جيمس فيلان (إن السرد فعل محفز) في توكيد فاعلية السارد في التعامل مع شخصياته بوعي بيئي وجسدي يتعاطف فيه مع البيئة المحيطة على المستويين الأخلاقي والعقلي، مستعملا تقانات التبئير والوصف وتيار الوعي وغيرها، وغايته صنع بيئة عاطفية تكون مؤشرا إلى قوة السرد في بناء العالم وتجسيده. وهو ما رسم هيغلوند صورا كثيرة له مستهلما مبادئ المادية البيئية في تفسير رواية (الإبادة) 2014 للروائي الأمريكي جف فاندرمير، والرواية خيالية أو غير طبيعية، فيها المكان عبارة عن بيئة مغايرة ذات فواعل غير بشرية وكيانات تنتمي إلى عصر الأنثروبوسين. وطبق هيغلوند في تحليله الأيكولوجي لها صورة من صور الواقعية هي (الواقعية العجيبة) للفيلسوف الأمريكي غراهام هارمان مؤلف كتاب (الحب والفلسفة) والقائل: (إن الواقع عجيب وغير مستقر وبشكل لا يمكن تفسيره لأن الحقيقة نفسها لا يمكن قياسها أو تمثيلها)
والواقعية العجيبة نزعة مادية في كشف جماليات الخيال العلمي في عصر الأنثروبوسين، الذي فيه صارت ممارسات البشر مدمرة للبيئة ومسفرة عن ولادة كائنات عجيبة وأشياء غريبة، وللإنسان دور كبير في ظهورها مثل رقعة من البلاستيك بحجم أوروبا تعوم في المحيط الهادي أو فئران حضرية تقاوم السموم أو خنازير ما بعد فوكوشيما المشعة أو أجنة بشرية متطورة جينيا وغيرها.
وهو ما يتكلم عنه السارد الذاتي في رواية (إبادة) محاكيا عالما غير واقعي (عجيب) يتمثل في( area (Xواهتم هيغلوند بزاويتين الأولى تتعلق بـ(علم السرد والمحاكاة المادية) واصفا الطرق التي تنحرف بالسرد من تمثيل العوالم المتوقعة إلى اتباع استراتيجية تفسيرية في المحاكاة، تقوم على الاستحالة المنطقية التي تنتهك أطر العالم الحقيقي التقليدية.
والزاوية الثانية تتعلق بما أطلق عليه الباحث اسم (السردية الإنسانية) التي فيها السارد ذاتي هو زوج إحدى الشخصيات النسوية الأربع (عالمة أحياء وعالمة النفس وعالمة آثار وعالمة لغويات) اللائي جئن إلى المنطقة أكس باحثات عن أزواجهن، الذين فقدوا بعد ان أصابت طائرتهم كارثة بيئية فيكتشفن نظاما بيئيا عجيبا تسكنه مخلوقات زاحفة تتحرك ببطء لأعلى وأسفل داخل لولب.. فيكتبن تقارير عن ألغاز هذه المنطقة.
وتبدو الواقعية فنا تشويهيا، حيث المحاكاة لا تعني مطابقة الواقع، وإنما التأسيس لعلاقة عجيبة بين النص السردي والعالم البيئي، تتحدى الديكارتية المعيارية، وتلفت الانتباه إلى الفوضى الوجودية التي فيها الجسد عابر يتشابك مع العالم البيئي، ويخضع للإبادة بسبب ما فيه من كوارث النفايات النووية والاحتباس الحراري والتصحر، وغير ذلك من الكوارث البيئية التي تجعل عالمنا عجيبا. وكلما ازدادت تمثيلات السرد غير الطبيعي لها، كانت المخاوف التي تهدد كوكب الأرض في القرن الحادي والعشرين أكثر خطرا.
كاتبة عراقية