جو الأساطير

كنت أقرأ في الفترة الماضية كتابا بعنوان «أساطير لاتينية» من إعداد رامون لابال، وترجمة الروائي والمترجم أحمد عبد اللطيف، ونشرته ذات السلاسل العام الماضي، وعثرت عليه في أحد معارض الكتب، جذبني العنوان واقتنيته على الفور.
الكتاب عبارة عن مجموعة من الحكايات التي تمثل الأسطورة أو الخرافة تماما، بعضها طويل ومتشعب، ومتعدد الأصوات، وفيه أسفار طويلة، ومغامرات، وبعضها حكايات صغيرة، تجري أحداثها في نطاق ضيق، لكنها كلها سلسة وسهلة القراءة، وفيها من المعرفة الكثير.
الذي لفت نظري في هذا الكتاب وبعد مقارنته بكتب أخرى فيها أساطير شعوب أخرى، وحتى عندنا في الوطن العربي، في دوله كافة تقريبا، هو تشابه الجو الحكائي، ولا أعني البيئة، فالبيئات تختلف طبعا، والمجتمعات قديمة أو حديثة تختلف في عاداتها وتقاليدها، لكن أعني شخوص الأسطورة، أو الأفراد الذين يروون الخرافة، ويتلبسونها ويحكون بها وعنها. هناك فعلا تشابه في ذلك، وأكاد أجزم أن أي أسطورة في أي بلد، لا تخلو من ملك ظالم، مستبد على شعبه، وآخر عادل رفيق بشعبه، فيها أميرة جميلة، ستتعرض للسحر، أو تمرض بمرض لا شفاء منه إلا بشروط معينة، وتلك الشروط، قد تكون شرطا واحدا، وهي أن يأتي أحدهم بعلاج ما، يصفه أحد الحكماء، غير متوفر في المملكة، ويحتاج إلى سفر ومغامرات، ودائما يكون هذا الشخص شابا وسيما من عامة الشعب، سيشفي الأميرة، ويتزوجها، ويرث الملك في الحكم.
أيضا صيغة وصف المرأة العجوز التي ترد في معظم الأساطير، إنها في الغالب ساحرة شريرة، قد تؤذي الشاب الوسيم، إن استجاب لها، وتحوله لطائر، أو تسحر الأميرة، وتحولها إلى جماد، وأحيانا نجدها امرأة طيبة، تمد يد المساعدة لأطفال قسا عليهم والدهم وزوجته بعد وفاة أمهم، وطردوهم من المنزل، لتمنحهم قدرات خارقة يعيشون بها.
الاختلاف قد يكون في المسميات، وقد يظهر الغول، ويحمل اسما آخر، أو يظهر الشيطان ولهم اسم آخر أيضا. المهم أن الأسطورة تمضي ونتابعها بشغف لنصل إلى نهايتها، التي غالبا نعرفها من تشابهها مع أساطير أخرى قرأناها لشعوب أخرى، كما ذكرت.

إن الشعوب مهما اختلفت بيئاتها وأمزجتها وثقافتها، وشكل المجتمعات فيها، تملك إحساسا واحدا تجاه بعض الأشياء، هذا الإحساس الذي يجعل أسطورة لاتينية أمريكية، هي بالضرورة أسطورة صينية أيضا، ويابانية، وفيتنامية، وسودانية لكن بصياغة تلامس البيئة، إنها الوحدة الثقافية التي نتمناها.

هناك كتاب اسمه «الأحاجي السودانية» أعده الراحل عبد الله الطيب، الذي كان حجة في زمانه، وما يزال إرثه في اللغة العربية، يملأ عقول كل من قرأوه، واستفادوا من المعرفة التي قدمها، ومثلما كان حجة في اللغة العربية، أيضا هو حجة في التراث، وكتابه الأحاجي السودانية، من الكتب الجميلة التي يمكن الاستمتاع بقراءتها في أي عمر. الأحجية تعني الحكاية المسلية، وكنا نطلقها في السودان على الحكايات التي تقصها الجدات على الأحفاد قبل النوم، أيام أن كانت الجدات متمكنات في حمل الرسالة التربوية والتثقيفية، على الرغم من عدم دخولهن مدرسة لتعليم ذلك، وحدها الحياة علمتهن الكثير، وهن بدورهن ينقلن المعرفة لأجيال قادمة. وكان فيهن شاعرات، قلن شعرا كثيرا في التراث وأرخن للحروب والنضالات القديمة ضد المستعمر، وبعضهن أورثن الأبناء والأحفاد ملكة الحكي، ليكتبوا بعد ذلك، وكانت جدتي لأمي عائشة أحمد زكريا، شاعرة شعبية بليغة، كانت أمي تحفظ قصائدها وتلقيها علينا، وهي والدة الأديب الراحل الطيب صالح، الذي بلا شك تشرب منها الحكي وأتقنه، أمي علوية أيضا كانت حكاءة شفاهية بارعة، كانت تحكي لنا الكثير من خرافات القرية التي ولدت فيها، وأجزم أنني تعلمت منها.
أعود للأساطير، ففي كتاب عبد الله الطيب أحجيات كثيرة، هي أساطير بلا شك، وبالمواصفات نفسها التي رأينا عليها كتاب رامون لابال، فقط بمسميات مختلفة كما ذكرت، هناك ملوك متباينو النزعة، أمراء وسيمون، أميرات جميلات مريضات أو مسحورات، وبنات فقيرات جميلات سيرتقي بهن جمالهن إلى الزواج بالأمراء، نساء عجائز ساحرات ومكارات، الغول الذي يحاول التهام الفتيات الجميلات، والشيطان الذي يظهر بمسمى السعلاة، والتعاويذ التي قد تبطل السحر، أيضا الأدوية التي تجلب من بلاد بعيدة لعلاج الخرس لدى أميرة مسحورة، هكذا.
ولو عرجنا على الأدب الحقيقي، بوصفه ابنا شرعيا للتراث ولاصقا به، ويأخذ منه، لعثرنا على كثير من تلك الأحجيات، سواء عند كتاب أمريكا اللاتينية أو عندنا، ومعروف طبعا الواقعية السحرية التي كتبت الأساطير، لكن بطريقة أخرى تشابك فيها الواقعي بالأسطوري، في الزمن الحديث. هذا نجده عندنا وعند اللاتينيين والإسبان، وفي المغرب ومصر أيضا، والكتابة عن كرامات الأولياء، وإتيانهم بالمعجزات، ليس كتابة عادية، إنها صياغة للخرافة أيضا، وصياغة ممتعة، لن يقرأها أحد إلا استمتع بها.
أردت القول هنا، إن الشعوب مهما اختلفت بيئاتها وأمزجتها وثقافتها، وشكل المجتمعات فيها، تملك إحساسا واحدا تجاه بعض الأشياء، هذا الإحساس الذي يجعل أسطورة لاتينية أمريكية، هي بالضرورة أسطورة صينية أيضا، ويابانية، وفيتنامية، وسودانية لكن بصياغة تلامس البيئة، إنها الوحدة الثقافية التي نتمناها.
وأعتقد لو ترجم كتاب عبد الله الطيب: الأحاجي السودانية، مثلا إلى اللغة الإسبانية، لعثر فيه القارئ الإسباني على أساطيره نفسها، وربما اندهش من التشابه، إلا لو كان قارئا ملما بالثقافات، ويعرف شيئا من ذلك التشابك.
عموما كتاب «أساطير لاتينية» كتاب مهم، وقراءته جزء من اكتساب المعرفة، وصفحاته موحية كثيرا للذين يكتبون، ويبحثون عن إلهام دائم.

كاتب سوداني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور جمال البدري:

    إنّ أفضل كتاب عن الأساطير هو كتاب { البطل بألف وجه } لجوزيف كامبل.ستجد فيه قوس قزح من الحكايات من الشرق والغرب برؤية نقدية وسرد ممتع.

  2. يقول سيف كرار... السودان:

    نحن كسودانيين إن أعظم كتاب احاجي تجده عند الجدات والحبوبات…اذكر عندما كنا صغار، نقوم بزيارة جدة والدتنا وهي بلغت من العمر عتيا اسمها النوار علي الخضيري… فكان منزلهم في والنيل بالنيل الأزرق مدرسة في التراث…

إشترك في قائمتنا البريدية