من أكثر العبارات شيوعا في الخطاب الإعلامي الغربي عبارة «آي. دي. أف» التي درجت الألسنة على لوكها كلما تعلق الأمر بالقضية المقدسة التي تسمى أمن إسرائيل، أي بالأخبار المتعقلة بالاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على الفلسطينيين وعرب الجوار استمرارا لا انقطاع له منذ إنشاء الكيان الكولونيالي عام 1948. آي دي آف فكّر وقدّر، آي دي آف حذّر، آي دي أف أنذر ولهذا فقد أعذر، وآي دي آف اضطر اضطرارا إلى الرد، على كره منه، على عمليات الإرهابيين. آي دي آف. «قوة الدفاع الإسرائيلية»: هكذا اعتاد الإعلام الغربي أن يسمي جيش الاحتلال الإسرائيلي. أي أن الإعلام المفترض أنه الأكثر استقلالية في العالم يبدو كما لو أنه غير مدرك أنه منساق منذ عدة عقود خلف منطق التفكير الإسرائيلي وأنه قانع (أو مقتنع؟) بأن يسمي الاحتلال بما يسمي به نفسه (أو مصدق بما يزعمه الاحتلال لنفسه؟).
إنه لمن المحير حقا أن الإعلام في «العالم الحر» لا يزال مستمرا في هذا الانسياق الآلي، بل الببّغائي، دون أن يخطر بباله لحظة أن قد آن الأوان، بعد كل هذا التاريخ الطويل، لمراجعة مدى صحة هذه التسمية، ولطرح السؤال الواجب: هل أن عبارة «قوة الدفاع الإسرائيلية» عبارة تقريرية عن واقع لا خلاف حوله؟ وهل هي عبارة إخبارية عن حقيقة قابلة للمعاينة، أم أنها عبارة إيديولوجية وشعار دعائي؟ وإذا كانت عبارة تقريرية بريئة، فلماذا لم يَتَسمَّ بها أي جيش آخر على وجه الأرض؟ لماذا تسمى كل الجيوش جيوشا وكفى (الجيش الأمريكي، والروسي، والصيني. الخ) بينما يسمي الجيش الإسرائيلي نفسه قوة دفاع؟
وأيا كانت دواعي الاحتلال في تكريس هذا الشعار الدعائي، فهل يجدر بالإعلام الغربي أن يجاري الاحتلال في مزاعمه فيكون بذلك موافقا على الرسالة الإيديولوجية الدعائية المبثوثة في التسمية: أن الدفاع هو الوضع الوجودي الطبيعي للكيان الكولونيالي، وأن الجيش الإسرائيلي هو دوما في موقف دفاع، وأن كل ما حوله يبادره بالهجوم أو يبيّت ضده نية الهجوم؟ وواضح بطبيعة الحال أن هذه التسمية فرع من أصل إيديولوجي معروف: أن إسرائيل هي جزيرة العقلانية الديمقراطية في محيطات التعصب الاستبدادي، وأنها منارة الحضارة في بيداء الهمجية، وأنها «فيلاّ وسط الغابة» حسب القولة الرومانسية للشاعر الرقيق إيهود باراك.
إذا كان من الجائز التماس العذر لعموم الناس في ما يرددون من عبارات رسمية أو تجارية، دون مراجعة وتدقيق، فإن من أهم واجبات الإعلام أن يتحرى الدقة في ما يستخدم من مفردات وعبارات
وإذا كان من الجائز التماس العذر لعموم الناس في ما يرددون من عبارات رسمية أو تجارية، دون مراجعة وتدقيق، فإن من أهم واجبات الإعلام أن يتحرى الدقة في ما يستخدم من مفردات وعبارات. والدليل أنه عادة ما يدقق بكل حرص في مختلف التسميات والنعوت. ومن ذلك، على سبيل المثال، أن لوموند قررت منذ السبعينيات أن تتجنب استخدام عبارتي «الخليج الفارسي» و«الخليج العربي» لأن في العبارتين التزاما بموقف محدد في شأن متنازع عليه، ولذلك دأبت منذئذ على استخدام عبارة «الخليج العربي ـ الفارسي».
وإذا افترضنا، في أفضل الحالات، أن تبنّي الإعلام الغربي لهذه التسمية الإيديولوجية المضللة صادر عن عادة قديمة وأنه لم يخطر حتى الآن لأحد من آلاف الصحافيين إعادة النظر فيها رغم تعاقب الأجيال، فإن الأدعى للاستغراب أن نقرأ في كبريات الصحف الغربية أن الجيش الإسرائيلي يؤكد أنه ملتزم بشن حملته العسكرية على غزة بما يتوافق وقواعد القانون الإنساني الدولي (!) هذا رغم أن تقرير الأمم المتحدة (غولدستون) في أعقاب العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2008 يؤكد أن «عقيدة الضاحية» المنبثقة عن التأويل الإسرائيلي لهذا الالتزام إنما «وضعت لمعاقبة مجموع السكان المدنيين وإذلالهم وإرهابهم». ولكن غابي سيبوني الأستاذ في معهد القدس للاستراتيجية والأمن يقول إن الدليل على الالتزام الإسرائيلي بالقانون الإنساني الدولي هو دعوة الفلسطينيين إلى الجلاء عن شمال غزة!
والأغرب أن تقرأ أن لدى جيش الاحتلال «ميثاقا أخلاقيا» أو «مدونة سلوك» وأن أستاذ الفلسفة في جامعة تل أبيب آسا كاشر الذي ساهم في تحرير هذه المدونة يقول: «عندما يكون ثمة موقع يختلط فيه المدنيون والمقاتلون، نزن المخاطر بحيث إذا كانت المكاسب مهمة عسكريا والخسائر محدودة مدنيا، فإنه ينبغي أن نهاجم، وإلا فإننا نتراجع (هكذا!). ويشرح محرر الميثاق الأخلاقي أن تدمير حماس ليس هدفا معقولا، ولا يتعلق الأمر إلا بتدمير قدراتها العسكرية والمالية. «أما القضاء على كراهيتها لليهود والإسرائيليين والغرب، فهذا ما لا سبيل إليه».
كاتب تونسي