يكشف كتاب الدكتور عبد الرحمن التمارة الموسوم بـ’مرجعيات بناء النص الروائي’ الصادر عن منشورات دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، والذي يقع في 423 صفحة من القطع الكبير عن قلق ابستمولوجي، وجهد جينالوجي يميز هذه الدراسة التي هي في الأصل بحث لنيل شهادة الدكتوراه أنجز بإشراف الدكتور حميد لحمداني. وقد ورد في كلمة غلاف الكتاب ما يأتي: ‘تهدف دراسة بناء ‘مرجعية’ النص الروائي إلى تعميق الوعي المعرفي والمنهجي بكون المرجعية النّصيّة للرواية تتشكّل بواسطة اللغة وفعل التخييل، غير أن مدلولات بعض العلامات النّصية قد تقترن ب’الواقع’ المحتمل بامتداداته المتنوعة والمتعدّدة، وبتصوراتنا الذهنية المختلفة عنه’.
الحديث عن مفهوم’ المرجعية’ يكشف طبيعة هذا القلق الإبستمولوجي الموجه لهذا العمل ارتبطا باجتهاد نقدي يروم إبداع رؤية نقدية تتسم بالجدة والمغايرة. وارتباطا بالتخطيط المنهجي والمعرفي والتنظيمي. والبحث حسب الباحث عن الأنماط المرجعية البانية للنص الروائي، وبناء الدلالات النّصية والسياقية التي توحي بها كل مرجعية نصية. بَيْد أن تصنيف مرجعيات النصوص الروائية المدروسة، وبناء مدلولاتها النصية والخارج نصية، وتأويل علاماتها النصية في علاقة بالسياقات التاريخية والحضارية الراهنة، انبني على منطلق معرفي ومنهجي أساسه النظر إلى ‘مرجعيات’ النصوص الروائية بوصفها عوالم تخييلية محتملة وليست عوالم محقَّقة.
ولن يكون هذا الطموح مقترنا بمحمولات ثقافية تستعيد رؤى نقدية مألوفة، بل مقرونا بجبة سيميائية وعلى نحو خاص السيميائيات التطورية (La s’miotique diachronique) كما بلورها ‘فلادمير كريزينسكي’ (W. Krysinski). وبروح المغامرة، وبفرادة الجينالوجيا التي مكنت الدكتور عبد الرحمن التمارة من التقصي العلمي الدقيق للمرجعيات البانية للنصوص الروائية. واختار الباحث المرجعية ‘الرحلية’ من خلال رواية ‘الإمام’ لكمال الخمليشي، و’رحلة خارج الطريق السيار’ لحميد لحمداني. وهي المرجعية المؤسسة على خلفية جمالية. والمرجعية التاريخية من خلال رواية ‘العلامة’ لبنسالم حميش، ورواية ‘شجيرة حناء وقمر’ لأحمد التوفيق. أما المرجعية الثالثة فهي المرتبطة بالخلفية الفضائية وقد وسمها الباحث عبد الرحمن التمارة بالمرجعية السجنية من خلال رواية ‘الساحة الشرفية’ لعبد القادر الشاوي و رواية ‘سيرة الرماد’ لخديجة مروازي. ويتكون هذا العمل على المستوى المنهجي من المكونات التالية:
-الباب الأول: باب نظري اتصلت محتوياته بالمرجعية والنص الروائي من زاويتي التأطير المفاهيمي، ومن زاوية بناء مرجعية النص الروائي وتشكيلها. ويتضمن فصلين: الأول اقترن أولا بالبحث في مفهوم ‘المرجع’، والثاني انصب فيه البحث على كيفية تشكّل مرجعية النص الروائي وبنائها من ثلاث زوايا؛ الزاوية الأولى تخص بناء مرجعية النص الروائي وفق أفعال التخييل المختلفة. أما الزاوية الثانية فتهُّم مقاربة الآليات الخمس المساهمة في بناء مرجعية النص الروائي. في حين الزاوية الثالثة تتصل بقوانين تشكل مرجعية النّص الروائي.
-الباب الثاني: باب تطبيقي، وقد ضمَّ ثلاثة فصول: الفصل الأول: انطلق فيه الباحث من المقاربة من مبدأ التصنيف؛ أي تصنيف مرجعيات النصوص الروائية المدروسة إلى ثلاثة أنماط، بناء على معطياتها وعلاماتها النصية، انطلاقا من المتون السالفة الذكر. الفصل الثاني: توجه فيه الباحث من المقاربة النقدية صوب دراسة المكونات الفنية والجمالية التي يستدعيها البحث في آليات بناء المرجعيات النصية للروايات المدروسة. الفصل الثالث: اقترنت فيه المقاربة النقدية بالتقويم، لأن دراسة مرجعيات النصوص الروائية المدروسة توجهت صوب تحديد مظاهر ‘التجديد’ أو’التقليد’ في النصوص الروائية، وذلك انطلاقا من القوانين المتحكمة في بناء المرجعية النوعية لكل نص روائي .وقد ختم الدكتور عبد الرحمان التمارة بحثه بخلاصة تركيبية.
ولعل المتتبع لمكونات هذا العمل الأكاديمي يدرك حجم الجهد المضني الذي بذله الباحث، فضلا عن التأمل العميق لهذه المرجعيات في محاولة لتوسيع دائرتها عبر التحقق النصي والتأويلين وعبر استشراف قواعد هذه المرجعيات وتشكل مدلولاتها المختلفة.
إن هذه المكونات تشكل أورغانون هذا الكتاب، ودوائر الفهم والتفسير هي المؤسسة لمفهوم المرجعية الذي سعى الدكتور عبد الرحمن التمارة إلى تبيان مشروعيته الابستمولوجية.
وتفضي آليات التحليل المطبقة على هذه المتون السردية- السابقة الذكر- إلى تشكل أفق هيميونيطيقي بهوية مزدوجة. فهي تفكيكية من جهة، وتنظيرية من جهة أخرى.غير أن هذه الهيرميونيطيقا وهي ترتبط بالذات العارفة وبالخصوصية الفردية التي تميز الإدراك المعرفي والجمالي للباحث هي التي تؤسس لمشروعية تشييد مفهوم ‘المرجعية’، ومواجهة الإحراجات التي تواجهها. بيد أن لجوء الباحث لتتبع السياق المعجمي واللساني للمرجع، فضلا عن الرؤية المنهجية السيمائية بدد منعطفات هذه الإحراجات، وعمل على إغناء هذا المفهوم في تعالقاته بالتاريخ والواقع.
كما أن الكتاب يكشف وعيا عميقا بميثاق الكتابة السردية، وبخصوصية هذا الجنس الأدبي والسياقات المشكلة لجنسه وتاريخه. واقصد بذلك السياق النوعي، والسياق النصي، والسياق الدلالي، والسياق البلاغي والجمالي. وهي السياقات التي تساهم في تشكل الفهم العميق لماهية ‘المرجعية’ كما حددها الدكتور عبد الرحمن التمارة الذي تحول في هذا الكتاب من مهمة الناقد إلى مهمة الراصد لحركية النصوص ولإبدالاتها الدلالية والجمالية. ليتحول في الوقت نفسه إلى مساهم في إنتاج معنى المعنى اقترابا من ما أسماه ديلتاي بمتطلبات الموضوعية. وهذا يفسر ارتهان الباحث على النص الروائي وتأويله.
إن إرادة هذا الجينالوجي هي التي تمكننا من العودة إلى المتون المقترحة بوصفها نصوصا مفتوحة، وقادرة على إنشاء عمليات فهم جديدة ارتباطا بالمرجعية بدوائرها المختلفة، خاصة دائرة العمل أو المعرفة، وهي التي تتيح لنا القدرة على كشف الوسيط الرمزي للتيولوجيا في رواية الأمام لكمال الخمليشي، والسلطة الزمنية، نفي رواية الساحة الشرفية لعبد القادر الشاوي. فكل خطاب يمكن أن يصبح موضوعا لخطاب آخر على حد تعبير باختين. ومن هنا تأتي جدة هذا الكتاب الذي يخفي قوة ابستمولوجية، وحوارية متجددة بين الباحث والرؤى السيمائية من جهة، وبين الباحث والمتون السردية المقترحة من جهة ثانية. وهذا يدفعنا إلى القول إن كتاب ‘مرجعيات بناء النص الروائي’ وثيقة بالمعنى الأركيولوجي لرحلة ذهاب وإياب بين المعرفة والرواية.
نتذكر في هذا السياق قول تروتسكي بأنه تمكن من معرفة تاريخ فرنسا من خلال قراءته لروايات بلزاك الموسومة بالكوميديا، أكثر من قراءته لكتب التاريخ.
كتاب ‘مرجعيات بناء النص الروائي’ هو بحث في المفاهيم من قبيل: القصدية، والتمثل، والهوية، ونقصد بذلك الهوية بما هي عليه، أو ما ينبغي أن يكون تبعا لرؤية ميري ورنوك في كتابه ‘الذاكرة بين الأدب والفلسفة’.
مرجعيات بناء النص الروائي يخلخل وضعيات اعتقد أنها آمنة وغير قابلة للتفكيك ولإعادة الفهم والتفسير، وهو ما يبرز التفكير الخلاق الذي قدمه الدكتور عبد الرحمن التمارة ارتباطا بتجربة معرفية إنسانية رحبة، وارتباطا بالمخيال الخصب، وهو ما يتضح من خلال إنتاج سياقات جديدة وجدت في الهيرميونيطيقا هوية لشرعيتها السيمائية.
والهيرميونيطيقا بوصفها آلية أساسية لبناء دلالات مرجعية كتاب ‘مرجعيات بناء النص الروائي’ تفضي بحيويتها إلى طريق شبيه بالطريق الذي اختاره بول ريكور والموسوم بالطرق الطويل.
عن العودة إلى المتون السردية من قبل الباحث لتكن مرتبطة برغبة في تأمل المحكي السردي ولا في طبيعة المصائر المختلفة، بل في السعي الإبستمولوجي لإدراك مرجعيات بناء هذه النصوص، وكان الدكتور عبد الرحمن التمارة يشبه في مهمته هذه ما فعله ميلان كونديرا في ‘الستار.’
عبد الرحمن التمارة في كتابه ‘مرجعيات بناء النص الروائي’ يريح الستار عن المحتمل، والممكن، ويزيح الستار لرصد التحولات التي ساهمت في تشكل هذه المرجعيات وفي تحولها ارتباطا بسياقاتها المخصوصة.
إنه سير نحو المخاطرة أملا في المغايرة، وتمسكا بما كان يسميه فلوبير بـ’الاجتهاد دائما في الذهاب إلى روح الأشياء’.
وتلك هي المزية الكبرى التي ميزت كتاب ‘مرجعيات بناء النص الروائي’ للدكتور عبد الرحمن التمارة.