خائن لا غنى عنه!

حجم الخط
1

غريغوري راباسا، أحد كبار مترجمي الأدب في عصرنا، والذي نقل من الإسبانية إلى الإنكليزية عشرات الأعمال الخالدة لروائيين من أمريكا اللاتينية، وأبرز صانعي تلك الموجة المدهشة التي عُرفت باسم ‘الواقعية السحرية’.
وليس أمراً عابراً، بل هو نادر كلّ الندرة، أن يقول روائي مثل غبرييل غارثيا ماركيز إنّ ‘مائة عام من العزلة’ هي في الإنكليزية أجمل منها في الأصل الإسباني، الأمر الذي ينطوي على تنازل من المؤلف في ركيزة عظمى تخصّ العمل الأدبي: اللغة، أسلوباً وبلاغة ووسيلة وغاية. ولا يحكم على صحّة هذا التقدير الدراماتيكي سوى الخبراء في اللغتين، غير أنّ ما نعرفه من تاريخ العمل يشير إلى أنّ ذيوع صيت ماركيز في أربع رياح الأرض بدأ مع صدور الترجمة الإنكليزية، والأرجح أنها كانت أحد أهمّ الاعتبارات وراء فوز ماركيز بجائزة نوبل سنة 1982.
كتابه ‘إذا كانت هذه خيانة: الترجمة ومظّانها’، أقرب إلى مذكرات شخصية حول ملابسات ـ مصاعب ومشاقّ ولذائذ وأفراح ـ ترجمة قرابة 40 عملاً أساسياً، لأمثال ميغيل أنخيل أستورياس (صرّح أنه لم يكن يتخيّل كيف كان يمكن لروايته ‘قبطان الرمال’ أن تصل إلى القارىء الغربي، لولا ترجمة راباسّا)، ماريو فارغاس يوسا، خوان غويتيسولو (عُرف عنه، وهو المترجم بدوره، أنه كان يُدخل على أعماله التعديلات التي يرتأي راباسا أنها ضرورية عند الترجمة إلى الإنكليزية)، خوسيه ليزاما ليما (تحفته ‘الفردوس’ Paradiso، التي تحاكي، ولا تقلّ تعقيداً عن، رواية مارسيل بروست ‘البحث عن الزمن الضائع’)، أوسمان لينس، لويس رافائيل سانشيز (صاحب العمل البديع ‘نغمة ماشو كاماشو’، النظير البورتوريكي لرواية جيمس جويس ‘عوليس’)، خورخيه أمادو، أنتونيو لوبو أنتونيس، يواكيم ماشادو دو أسيس، أنا تيريزا توريس، خورخيه فرانكو، فضلاً عن غارسيا ماركيز وكورتازار.
القسم الأوّل من الكتاب (ستة فصول) يكرّسه راباسا لتبسبط نظريته الخاصة في الترجمة، ومناقشة القول الإيطالي المأثور ‘المترجم خائن’ Traduttore, traditore، ومن هنا عنوان الكتاب: إذا كانت هذه هي الخيانة، فإنها ليست موضع ترحيب فحسب، بل هي ضرورة قصوى لا غنى عنها، ولا مفرّ منها! وفي فصل جميل بعنوان ‘في اقتفاء كلمات أخرى’، يعلن راباسا أنه سيمارس على نفسه أولى خيانات الكتاب، فيعترف أنه لم يكن أبداً قد نوى احتراف الترجمة كمهنة، لولا سلسلة حوادث وقعت في مطلع حياته (بينها، مثلاً، قراره اطلاق اسم ‘طريق دمشق’ على شارع بيت العائلة في هانوفر، نيو هامبشير؛ وحقيقة أنّ المصادفة وحدها كانت قد قادته إلى الترجمة من الإسبانية، وهو من أب كوبي وأمّ أمريكية، حين عمل مترجماً في الجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية).
ومن الطريف قوله إنّ هذه الحوادث الصغيرة تخدم في تبيان مقدار ما تمتلكه الكلمات من فوارق في المعنى بين شخص وآخر، ربما ‘لأنها مستقرّة في أعماق الوعي الباطن وترتبط ببعض التجارب المبكرة’. ويتابع راباسا، جاداً في غمرة الطرافة ذاتها: لعلّ السيد شومسكي [وهو هنا يقصد جانب عالِم اللسانيات في شخصية المفكر السياسي الكبير] يغوص أعمق في تأمّل احتمال أن نحمل بعض الصفات القاموسية الغامضة في حامضنا النووي DNA’! ورغم أنّ المرء، والمترجم خصوصاً، ينتظر منه أن يبوح ببعض ‘أسرار’ المهنة، وكيف تغلّب على ذلك العدد الهائل من المعضلات التي واجهته، فإنّ راباسا لا يشفي الغليل هنا، عامداً على الأرجح، ومحقاً. هذه ليست مهنة نمطية، تقنية، حِرَفية الأداء أو حَرْفية القواعد؛ بل هي أقرب إلى سيرورة التجربة المنفردة في كلّ مرّة، غير البعيدة دائماً عن الإبداع والمغامرة ومجابهة خيارات غير مسبوقة وغير قابلة للتصنيف.
.. الأمر الذي لا يعني أنّه يترك قارئه ظامئاً بلا أسرار! نعرف، مثلاً، أنه نادراً ما أنهى قراءة عمل قبل أن يبدأ في ترجمته، وأنه أشدّ خمولاً من أن يقرأ كتاباً مرّتين!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نادر:

    ما شاء الله أنت في الأدب وتاريخ الفنون أفضل بكثير من تحليلاتك السياسية أرجو أن تستمر في هذا المجال فهو يحتاج لثقافة عالية وأنت على ما يبدو ضليع

إشترك في قائمتنا البريدية