خاتمة الوصاية الامريكية: إنهاء الثورة والإبقاء على النظام!

حجم الخط
1

المشكلة في الحلول الدبلوماسية التي اعتادت الدول الكبرى على ممارستها، تحديداً في نطاق العالم الثالث، هي أنها تنطلق من مسلمة، مترسخة في أساس عقيدة الغرب منذ انطلاقِهِ في منهج استعمار الشرق، وخلاصتها أن شعوب هذا العالم غير مؤهلة لمعالجة قضاياها العامة وفق إمكانياتها الذاتية، حتى عندما يتوق بعضها إلى التغيير في بعض شؤونها، فلن تستطيع أن تنجز ما تأمل الا باستدعاء تدخلات أجنبية في أخص شئونها الوطنية، نقول هذا ونحن نعيش من جديد مرحلة قصوى من تشابك الوطني مع الأجنبي في أخص عوامل المصير العربي، وهو يواجه خيارات التغيير تحت طائلة الثورات الشعبية ونكساتها المفجعة.
لا أحد يجادل أن أقطار العرب جميعها تقريباً أمست متخمة بكل أسباب الثورات المعروفة في التاريخ الإنساني، وهي أسباب محددة ومعرَّفة تحت صيغة واحدة، عنوانها الطغيان السياسي وتوابعه من أشكال الاستغلالات المتشابكة اقتصادياً واجتماعياً، فالمجتمعات العربية مسلوبة الإرادة في كل شأن من شؤون حياتها العامة والخاصة. هذا الواقع البائس توارثته أجيال الحقبة الاستقلالية عن آبائها وأجدادها إبان الحقبة الاستعمارية الاحتلالية السابقة، بمعنى أن العرب لم يشعروا حقاً باختلاف وجودهم بعد جلاء جيوش الغرب عن أوطانهم، عما كانوا عليه قبل هذا الجلاء، فالطغيان واحد في جوهره سواء مارسه حكم استعماري مباشر، أو تسلط حكم وطني زائف، إنه العدو المركزي لهذه الكلمة الأبدية: الحرية.
خلال نصف قرن ونيف من عمر هذا الاستقلال جرّبت (طلائع) حركية متعددة الالتزامَ بعقائد وإيديولوجيات مختلفة، شائعة في أدبيات التقليد العالمي الأشمل، وحتى القومي، ومن ثم الذاتي الأضيق؛ اكتشفت في حطام من ركام هذه التجارب أنها ذهبت وراء أفكار كثيرة، لكنها نسيت عبر رحلاتها المضطربة، الفكرة الأبدية التي هي الحرية. فأية عقيدة أخرى تتناسى الحرية أو تضع لها شروطاً مسبقة؛ أو تأسرها في قوالب أو مناهج جاهزة، إنما تسلب من الحرية جوهرها الوجودي، ما أسهل ترداد اسم الحرية والتغني بصفاتها، لكن ما أصعب أن توجد الحرية ذاتُها أولاً.
إذا كان للربيع ثمة امتياز قد يوصف على الأقل بالمنعطف الثقافي، فهو أنه أعاد إلى قطاع واسع من شبيبة العرب، شعوراً تراجيدياً وفجائياً بافتقاد الحرية، وقد حمّل هؤلاء حكامَ أنظمة القمع القائمة المسؤوليةَ عن إفقاد شعوبهم للحرية، كانت تلك هي الشرارة المعرفية التي ألهبت العصر الربيعي العربي، راحت تحرق سُجُف الضلال والتضليل الاستبدادي، حين تحجب عقول الناس عن رؤية حقائق المظالم التي يرسفون في أغلالها دون أن يجرؤوا على التلفظ بأسمائها ونعوتها الأصلية، فأشد أحوال القمع هي تلك التي بات المقموعون يمارسونها آلياً ضد ذواتهم. حتى من دون رقابة الطاغوت الأكبر على أفكارهم وتصرفاتهم مباشرة. هذه الظاهرة الكئيبة لا تعتري فقط مجتمعات ما قبل الثورة لتعيق تفجيرها، بل قد تلاحق الثورة نفسها بعد وقوعها، وخلال كفاحها اليومي، الأمر الذي يعرض الثورة للانتكاس بفعل تناقضاتها الإنسانية قبل أن تواجه هزائم ميدانية، أو أنها (هذه التناقضات) قد تمهد لتلك الهزائم، ثم تنضاف إلى أعبائها.
في هذه الحمأة من شتى عقابيل الانتكاس والانهزام، يعثر المراقب الأجنبي على أفضل فرص التدخل الخبيث في الدهاليز الخافية لوقائع الحدث الثوري، كما قد يتصدر كذلك واجهاتِه في اللحظات المناسبة، وثورة سورية تخصيصاً كانت ملعباً رحباً لشبكة معقدة من شتى مناورات الداخل باسم الخارج، ومناورات الخارج باسم الداخل، حتى اعتقد الكثير من أقطاب الرأي العام المراقب أن مصائر الثورة أمست متنقلة في حقائب السفر إلى جانب الحقائب المملوءة بالأموال، وتلك الأخرى الطافحة بالأسلحة، وهي تسافر وتتنقل بين عواصم العالم وفنادقها. في حين تتساقط أرواح شباب الثورة في ميادين الوطن دون أن يدري بهم أحد.
منذ البداية، منذ أن تخلّت الثورة عن سلميتها العفوية، فُرض عليها أن تتنازل تدريجياً عن استقلالها الوطني، وأن تزدوج بالتوأم الأجنبي. وقد دأب إعلام تلك المرحلة على تصوير هذه التوأمة القسرية كأنها إنتاج نوع من التحالف المقبول في التصرفات الدبلوماسية، تحت ما يسمّى بحلف الضرورة؛ كأنما يُراد لهذه الضرورة أن تقوم بوظيفة التبرير والتسويغ لما هو ممتنع في أساسه عن معقولية مباشرة أو شرعية سياسية متداولة.
إذن، منذ أيام الثورة السورية الأولى، عمد الغرب إلى ادعاء مناصرتها، اختار سريعاً الاصطفاف إلى جانبها، معلناً التخلي المطلق عن شريكهم القديم، النظام الأسدي بكليته. ومطالباً صاحبه بالتنحي الفوري، حتى كاد أن يبدو الأمر كما لو أن الثورة ماهي إلا صنيعته. فقد فرض الغرب نفسه شريكاً قسرياً على مسيرة الثورة، متدخلاً في تطوراتها، وما أن انعطفت الثورة نحو العسكرة، وتسارعت انشقاقات جيش الدولة، واستطاعت الجماعات الثورية أن تهيمن بسرعة على معظم الريف الدمشقي، حتى ساد الاعتقاد أن النظام بات متهالكاً وأنه أمسى قاب قوسين من نهايته المحتومة القريبة؛ حتى هذه اللحظة كان المجتمع الدولي ومعه معظم العالم العربي، لا يكاد يفصل بين الثورة في ميادينها الوطنية المفتوحة، ودوائر واسعة حولها من (الأصدقاء) الإقليميين والدوليين، كان هذا الجميع منخرطاً في مهمة واحدة هي التعجيل بانهيار حكم الأسد.
لكن ماذا حدث حقاً حتى انقلبت عناصر هذه الصورة رأساً على عقب، فجأة ظهرت إشكالية انقطاع التسليح. فقد صدرت الأوامر العليا بإغلاق موارد التسليح والتموين، وكل ما له علاقة بتجهيزات الصراع العسكري. كان الجميع يعلنون ليلاً نهاراً أنهم مع الحل العسكري، بغتة برز شعار الحل السياسي، صارت الحرب شبه ممنوعة، فلقد تغيرت فجأة طبيعة العناصر المتقاتلة، باتت الحجة الدولية تعتمد أطروحة أوركسترالية ترددها الشخصيات الغربية وعواصمها ومنابرها الإعلامية. وهي أن الفصائل الموصوفة بالجهادية والتكفيرية وسواها، قد اختطفت الثورة أو كادت، وأنه بالتالي سيكون هؤلاء هم الممسكين كلياً بركائز السلطة في دمشق مابعد انهيار الطغمة الأسدية. هذه الحجة البائسة كانت كافية لإلغاء استراتيجية كاملة ليس لقضية شعب التضحيات الكبرى وحدها، بل تمّ استخدامها كمدخل نحو الانقلاب الأشمل في استراتيجية الزعامة الإمبراطورية لأمريكا، فهذه الزعامة، لم تتخلّ فحسب عن أدوارها الأولى في دعم تحالفات الضرورة مع فصائل معينة من قواعد الثورة، من رموزها العسكرية والسياسية، بل لقد استغل أوباما الانتكاسة السورية، وخاصة بعد العدوان الكيميائي، كتدشين حركي وشبه دولي لاستراتيجيته (العميقة) التي يصورها إعلامياً على أنها تعتمد الدبلوماسية بديلاً عن نهجيات الحروب والمؤامرات(؟) ليس عربياً فقط بل دولياً.
هذا التحول قد يصبّ في المحصلة، فيما يُصطلح عليه باسم السلام العالمي، فيما لو كان صادقاً وواقعياً، فقد تفيد منه إنسانية الشعوب الضعيفة، مما يوفر عليها جهوداً هائلة كانت تبذلها في قضايا تحررها الوطنية، فتوجهها نحو مسارات التنمية البشرية لمجتمعاتها. لكن ما يقصده التحول الامبراطوري حسب استراتيجيته (العميقة) تلك، ليس تغييراً جذرياً في طبيعة الأهداف المختصرة تحت ألوية الهيمنة، فالتحول نحو الدبلوماسية لن يغير شيئاً من ثقافة الإمبراطورية، سوف تبقى مجرد تغيير في الوسائل؛ فالهيمنة لن تُزاح من مركزية هذه الثقافة.. إلا عندما يتم لأمريكا أمركة العالم على طريقتها، وقد تصير الدبلوماسيات جزءا رئيسياً من عدة الشغل، لكن من قال أن الدبلوماسية لن تستخدم الحرب كجزء عضوي لا ينفصل أبداً عن عدة الشغل هذه، عندما تحل ضروراتها السياسية أو العملية.
نعود إلى القول أن أمريكا، والغرب وراءها كالعادة دائماً، صارت تسعى اليوم إلى اختتام وصايتها على ثورة سورية، تفرض أخيراً صفقة الحل السلمي دبلوماسياً، وإن صاحبته وقائع حربية، وأخرى تآمرية، في الميادين السورية وفي كواليسها، لكن الثوار الحقيقيين لن يعجزوا عن ابتكار وسائل مقاومتهم الجديدة لأفخاخ هذا السلم الزائف، فسواء شارك بعضهم في مؤتمر جنيف (2)، أو استنكفوا عنه، فهذه الواقعة الدبلوماسية الخطيرة لن يمكن لقراراتها أن تجد سُبُلَها الممهدة نحو الواقع الفعلي، إذ يدرك بعض الغرب نفسه أن هذا المؤتمر ربما يشتغل على اصطناع واقع افتراضي، سيكون نسخة أخرى من مسرحية الضربة العسكرية الوهمية التي استطاعت أن تستحوذ على الاهتمام العالمي، ثم تبخرت ضباباً، ولكن أعقبها سريعاً مسرح آخر يلعب أوباما أدواره هذه المرة مع زعامة الملالي الإيرانية.
أوباما هو كاتب سيناريوهات افتراضية بامتياز، هذا هو المعنى المركزي للتحول نحو الدبلوماسية، كما أثبتته تجاربُ تحقيقها بدءاً من المسرح السوري، أما الثوار العرب لعلّهم اكتسبوا دراية غنية باجتراح أدوار فاعلة في الواقع الواقعي نفسه.. هذا هو الفارق، ولعلهم تعلموا في سورية خاصة، أن الثورة العربية هي انتفاضة على الوصاية الغربية في أساسها التاريخي، فكيف يمكنها أن تحقق هدفها إن وضعت نفسها تحت وصاية عدوها..

‘ مفكر عربي مقيم في باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أنور - برشلونة:

    عندما اقرأ للاستاذ الصفدي أشعر أن الأمة لازالت تملك عقولاً استراتيجية واعية فاحمد الله .هذا هو الغرب الأستعماري دوماً .لقد وقف كاذباً مع الثورة السورية في بدايتها وخذلها اليوم وكانت سياسته هي تحطيم سورية الكيان ووجد في بشار الأرعن الوسيلة لهذا التدمير ممن يدعي كاذباً أنه معادٍ للغرب . حسبنا الله

إشترك في قائمتنا البريدية