أعادت الحرب الإسرائيلية على غزة النقاشات حول القضية الفلسطينية إلى قلب العالم العربي، بعد أن تراجعت نسبياً في العقدين الأخيرين، خاصة بعد «الربيع العربي». وسبب التراجع ليس ابتعاد الناس وجدانياً عن القضية، فهي مبدأ مؤسِّس في فهمهم الأيديولوجي والسياسي للعالم، لدرجة أنها تداخلت في تحديد كثير من العوامل الثقافية الأخرى، ومنها الدين والفن ومفاهيم «الفضيلة» العامة، إنما بسبب ضغط قضايا أخرى، لا يمكن تجاهلها، خاصة مع تصاعد الاضطرابات الاجتماعية والحروب الأهلية في دول عربية متعددة؛ وأزمات النزوح التي لا تقل حجماً وأثراً عن اللجوء الفلسطيني؛ فضلاً عمّا بدا كأنه «سقوط» عواصم عربية، وعززه تصريح إيراني عن «السيطرة على أربع عواصم» (بغداد، دمشق، بيروت، صنعاء) وهي مدن لا يمكن أن تقلّ أهميتها عن القدس نفسها.
عادت «القضية» بألف لام التعريف، إلا أن الملفت هو طريقة التعاطي معها في العقد الثالث من الألفية الجديدة. لا تبدو لغة المتحمسين اليوم لـ»فلسطين» أكثر تعقيداً أو تطوراً من اللغة التي سادت في السبعين سنة الماضية، بل ربما العكس صحيح، يمكن تحديد فترات من عمر القضية، شهدت جدلاً وإنتاجاً لمفاهيم أشد تركيباً. ما تغيّر فقط هو ترجمة بعض الطروحات الغربية، وإسقاطها، بشكل تعسّفي غالباً، على الحالة الفلسطينية، وعلى رأسها «الأبارتايد» و«السكان الأصليون».
يسعى منتجو ثقافة عرب اليوم لـ»إعادة شرح القضية» لأجيال جديدة، أو ربطها بالخطاب السياسي الغربي المعاصر، وهو جهد نبيل الدوافع بالتأكيد، إلا أنه ينتهي في كثير من الأحيان عند حدود إثبات المظلمة، التي لحقت وتلحق بالفلسطينيين، وكأن مقولة الظلم وحدها قادرة على إنتاج سياسة أو ثقافة؛ أو كأن تعريف حالة تاريخية بمقولات أخلاقية، يكفي لفهمها وتفسيرها. يدفع هذا للسؤال: لماذا لا يحاول منتجو الثقافة هؤلاء إعادة شرح القضية لأنفسهم أولاً؟ هل هي سهلة فعلاً لهذه الدرجة؟
يجعل هذا الوضع «القضية» محاطة بأسوار لغوية عالية، مكوّنة من عبارات مكررة بشدة، يرددها جميع مستخدمي اللغة، على اختلاف ميولهم الفكرية والأيديولوجية، لدرجة أنه يبدو من الصعب فعلاً الكلام عن فلسطين باللغة العربية، و«الكلام» هنا بالمعنى التداولي، أي إنتاج طرح ومفهوم، قابلين للنقد، والتصديق والتكذيب، والإضافة والتعديل. عدم إمكانية «الكلام» تعني أن «فلسطين» ليست قضية مركزية فعلاً، مادامت لا تحفّز جديداً في لغة أنصارها. لماذا وصلت لغتنا المعاصرة إلى هذه الأزمة، بخصوص واحدة من أهم قضايانا؟ هل المشكلة في الثقافة أم في المتكلمين؟
التعويذة والعبارة
تحيل معظم الجُمَل، التي تشير إلى فلسطين باللغة العربية، إلى تصوّر عن أصل، ابتعدنا عنه أو تناسيناه أو خذلناه، وبالتالي فإنها ترجعنا إلى معنيين: الذنب؛ والحث على التماهي مع «حق» سابق على وجودنا، وأقرب لموجود متعالٍ. وإذا وافقنا على أن «فلسطين» ليست إلهاً، بل مسألة متعلقة بالسياسة، والقومية، وتشكّل الدول الوطنية، ومقولات «الشعب» والسيادة، وكلها مفاهيم بشرية، نشأت تاريخياً في القرنين الماضيين، فمن الغريب جداً أن نتكلّم عن مساحة جغرافية ما بهذه الطريقة.
هل صيغت «فلسطين» عمداً بطريقة تعيق الكلام، أي أنها موجهة أساساً لمنع الجدل حول تلك المفاهيم البشرية التأسيسية؟ الإجابة بـ«نعم» ستعني أن «القضية» أقرب لتعويذة، يستطيع من يجيد إلقاءها امتلاك قوة رمزية، ضمن فضاء ثقافي وسياسي، يحافظ على سلطاته بفضل هذا النوع من التعاويذ؛ الإجابة بـ»لا» تتطلّب بالتأكيد من أنصار القضية بذل جهد أكبر، لتطوير لغتهم وأفكارهم، وذلك لأجل فلسطين نفسها، أو بالأصح أهلها من بشر واقعيين.
قد يمكن ترجيح الإجابة الأولى، فهي قادرة على تفسير ظواهر كثيرة، ومنها تنافس تيارات وجماعات كثيرة، من المفترض أنها مختلفة المواقع والمصالح، على المزاودة حول «القضية» والانتقاص من أطراف أخرى، بدعوى أنها أقل أمانة عليها. وهذا يضعنا أمام واقع ثقافي صعب، فإذا كانت اللغة العربية المعاصرة، بوصفها كياناً حيّاً ومتغيّراً، تطورت طيلة عقود بالتماس مع قضية مركزية بهذه الصفات، واستُخدمت للتعبير عنها، فقد أكسبها هذا بالتأكيد «عادات» أضعفت من قدراتها التعبيرية والتواصلية. لقد تراكم لدينا فائض من الجمل والصيغ والمفردات، التي لا تقول شيئاً فعلياً، إلا تأكيد ما هو معروف سلفاً، ومحدداً بوصفه الصحيح والأخلاقي. ولدى كل حدث جديد، تُستخدم اللغة لإعادة الناس إلى حظيرة الصواب، وتطويع أسئلتهم داخلها.
يُرجع نقّاد العربية المعاصرة مشاكلها عادةً إلى عوامل جوهرية فيها، مثل تصلّب نحوها، أو ارتباطها بالنصوص المقدسة، أو انفصالها عن لغات الحياة اليومية، وكل هذه وقائع مهمة بالتأكيد، إلا أنه نادراً ما تم وضع استخداماتها السياسية والأيديولوجية بعين الاعتبار، ربما كان استخدام أية لغة، بشكل دائم ومتكرر، في سياق قمعي لهذه الدرجة، سيحولها إلى مجموعة تعاويذ.
لم يتشكّل وعينا ولاوعينا الأيديولوجي عبر العربية التراثية «المتصلّبة» فقليل من العرب المعاصرين يقرأونها أو يجيدونها فعلاً، وإنما عبر «عربية التحرر الوطني» إن صح التعبير، أي اللغة أو اللغات، التي عمّمتها دول ما بعد الاستقلال، في مؤسساتها التعليمية والإعلامية والثقافية، وهي لغات قد تجمع بين «الفصاحة» و«العامية» البناء المتين والركيك، العمق أو السطحية، لكن بكل الأحوال تصرّ على إفقاد الكلام والكتابة طابعها التداولي. ربما كان فقهاء الدين واللغة والمنطق في عصور سابقة، أكثر حرية في الجدل من العرب المعاصرين، وبالتالي فلغتهم التراثية أغنى وأكثر مرونة، رغم كل ما «يثقلها» من قواعد.
لن يمكننا أن نتكلّم عن فلسطين فعلاً، ما دمنا محشورين بهذه اللغة، وسيتفاجأ كثير من الفلسطينيين أنفسهم، الذين يعانون من الإبادة الجماعية، بما فيها من جوع وتشرّد وألم، عندما يسمعون بقية العرب يتحدثون عن «الصمود» و«النصر» والبشر بوصفهم «ثمناً لا بد من دفعه». قد يشعر بعضهم أن كل هذه المفردات ليست سوى تعاويذ شريرة، تلقى عليهم.
الاستعارة من فلسطين
تعلّم كثير من العرب المعاصرين أن فلسطين هي القضية العادلة بشكل مطلق. ومع أنه ليس من الصحيح بالتأكيد، لا تاريخياً ولا أخلاقيا ولا حتى سياسياً، التشكيك بعدالة المطالب الوطنية الفلسطينية، بتقرير المصير وإنهاء الاحتلال، إلا أن عبارة «العدالة المطلقة» أضرّت الفلسطينيين أولاً، والشعوب المجاورة لهم، لأن حلول «المطلق» في أي قضية سياسية، يعني قمع جمهورها بالضرورة، بل ربما تعريضهم للإبادة في سبيله، وذلك بدلاً من صياغة القضية، وإعادة صياغتها، بما يتفق مع النسبي والممكن والمتاح، أي رؤية البشر لما يحفظ استمرارهم، ويحقق ما يعتبرونه مصالحهم في فترة من الفترات. وبما أن البشر متعددون دائماً، فهم بحاجة إلى لغة توصل تنوّع مصالحهم ومواقعهم. وسيكونون في أزمة عندما لا يجدون سوى تعاويذ، تعبّر عن المطلق.
إلا أن الأمر لا يقتصر على القضية الفلسطينية فحسب، كثير من القضايا الأخرى في الفضاء العربي، استعارت من لغة القضية، إلى درجة بات من الممكن معها الحديث عن «بديهة» عربية في التعامل مع كل المسائل، وفق منطق «حق لا يموت» أو «استعمار بغيض» أو «عدو غاشم». لا يقتصر هذا على لغة/تفكير القوميين والإسلاميين النمطيين، فحتى الدعوات «الجديدة» التي تداخلت فيها كثير من المفردات الإنجليزية أو المترجمة عن الإنجليزية، مثل نزع الاستعمار، ومكافحة العنصرية والتنمّر والذكورية السامة، قَدّمت بدورها مظالم وصياغات مبسّطة، وهويات نمطية، وروايات ركيكة عن الآخر. ثم جاءت حرب غزة، لتتحد بفضلها جميع الأطراف، وتتكلّم لغة «القضية» بشكل معياري.
لنتكلّم عن فلسطين!
لا يحتاج العرب المعاصرون إلى إثبات عدالة القضية، أو تأكيد مظلمة الفلسطينيين، فاللغة التي نشأوا عليها مشبعة، إلى حد التخمة، بكل هذا. ربما ما يحتاجونه، ويحتاجه أولاً أصحاب القضية الفعليون، هو خلخلة استقرار تلك اللغة، كي يستطيعوا الكلام والجدل فعلاً.
لكل منّا تجربته مع «فلسطين»؛ هنالك تجربة فلسطينيي الداخل والشتات؛ وتجربة أبناء دول الجوار، المليئة بأنظمة وميليشيات الممانعة؛ ورؤى مواطني الدول العربية الأبعد، الذين فهموا «العدالة» عبر «القضية». وتلزمنا لغة جديدة حقاً للتعبير الفعلي عن كل تلك التجارب، التي لا تشبه بالتأكيد قوالبنا اللغوية الحالية عن «الحق». وهذا لا يعني الاستعانة بلغة أجنبية مثلاً، وإنما بكل بساطة رفض الاضطهاد الثقافي والمادي الناتج عن لغة «القضية».
أما المهتمون بـ»مخاطبة الغرب» أو «العالم» فربما يجب أولاً أن يمتلكوا لغة أم سليمة، وقادرة على التعبير، وعندها سيتكلّمون فعلاً بكل اللغات، عوضاً عن تكرار صيغها الأكثر ضعفاً وركاكة؛ وسيوصلون في الوقت نفسه تنوّع ألسنة أبناء منطقتهم. وقد تكون هذه الطريقة الوحيدة لكي يستمع إليهم «العالم» حقاً، بدلاً من أن يضعهم ضمن تصنيفات الهوية الأكثر سهولة، والأشد قابلية للإخضاع والسيطرة.
كاتب سوري