«خارطة الجبل»: من ثورة القمم إلى هندسة البناء

حجم الخط
0

الثورات لم تنل حقها في كتابة الرواية عنها، حتى الثورات الكبرى لم تحظَ بتدوينها روائياً كما تستحقّ، باستثناء الثورة الفرنسية التي أرّختها رواية «قصة مدينتين» لتشارلز ديكنز، والثورات الكردية لم تكن أكثر حظاً من مثيلاتها، بدءاً من الشيّخ سعيد بيران، وديرسم، ومهاباد وانتهاء بثورة بارزاني، وقد يكون السبب غياب روائيين كبار، أوعزوفهم عن تفاصيلها.
مسرودات رواية «خارطة الجبل» لزهرة أحمد تحكي قصة الكُردي الشّجاع، المقهور، المضحي، المقاتل، المغبون، قصّة الجغرافية الكردية في تشتتها بين خرائط أخرى تلتهم أطراف سهولها، ومدنها، خرائط شرسة في الاعتداء والابتلاع، لا تقف أمام تغيير ملامحها الطبيعية، بل تبتلع حتى لغة أهلها وآمالهم.
عنوان رواية زهرة أحمد «خارطة الجبل» هي عملها الرابع في المجال الكتابي، بعد ثلاثة أعمال قصصية وغيرها، يحمل إشكالية في المعنى، لدى القراء الآخرين غير الكُرد، ووضوحاً شديد البياض لدى الكُرد. فـ«الخارطة» اسم مأخوذ من فعل: خرَطَ يَخرُط ويَخرِط، خَرْطًا، فهو خارِط، وله معان كثيرة منها: خَرَطَ الْمَعْدِنَ: صَقَلَهُ وَشَكَّلَهُ، خَرَطَهُ فِي الأمْرِ: أدْخَلَهُ فِيهِ. واصطلاحاً: الخَريطةُ، ما يُرسَمْ عليه سطحُ الكرة الأَرضيّة، أَو جزءٌ منه. وبات دارجاً في السياسة (خريطة، طريق الحل، خطوات). وإذا دقّقنا في معنى: «خَرَطَ الْمَعْدِنَ: صَقَلَهُ وَشَكَّلَهُ» نجد أنّ النّظام السّياسي الذي أرسل جيوشاً جرارة إلى كردستان، أراد أن يرسمَ معالم الكُرد «تشكيلاً وتصقيلا» وفق تصوراته الذهنية المريضة، إمحاء لغتهم، فولكلورهم، ثقافتهم، يفصّل كردستان على مقاس الكراهية التي تعشَّشت في قلوبهم، أي «تشكيل» جغرافية الكُرد كما يشتهيها الغاصب، و«تصقيل» روح التّمرد على الظلم وترويضها، فخريطة الجبل تشدّ المخيال الكردي إلى العمل الفدائي والشجاعة الفائقة للدفاع عن الجبل وأهله. فما أن يسمع المرء كلمة الجبل، حتى يقفز إلى ذهنه الكرديُّ، اسمان متلازمان، لدى الكُرد، الجبل يعني المقاتل، فلا الجبل يركن إلى الهدوء بلا الكُردي، ولا الكرديّ يستقرّ إلا في حضن الجبل. فامتدّ المعنى اللغوي إلى المعنى السياسي، تهذيب الجبل الكردي، والحدّ من ثورته.
قدّم الشّاعر والروائي إبراهيم اليوسف هذا العمل قائلاً بكلمة توضيحية: «خلال عملها السّردي الأول «خارطة الجبل» تتناول الروائية ثورة الملا مصطفى بارزاني، والبطولات التي كان يحرزها البيشمركة الأبطال على قمم الجبال الشماء، بأسلحتهم البدائية البسيطة، مقارعين أحد أقوى الجيوش في المنطقة».
والرواية، كما أكّدها اليوسف، تتناول ثورة من أهمّ الثورات الكردية، التي أحدثت دوّياً كبيراً في الشرق الأوسط، وهزّت كيان النظام العراقي، ونشرت الوعي القومي، بين الكُرد في كلّ الخريطة الكُرديّة.

ملخص الرواية:

تجري أحداث الرواية في أماكن عديدة، في جبال كردستان وأريافها، في قرية حدودية، تنتعش الرّوح القومية لدى الكُرد مع أنباء الثورة واتساع رقعتها، وكلّما ازداد عنف النظام ضد الكُرد، ازداد انخراط المقاتلين فيها، في قرية حدودية في الضفة الغربية لدجلة، يُصبح معلّم القرية مناضلاً سياسياً لتنوير وتثقيف القرويين، وتتحوّل مضافتها إلى قاعة اجتماعات، تأتي منها وإليها الأخبار، فيتطوع الشّبان المتحمسون (أحمد، آزاد، قهرمان…) للالتحاق بالثورة، فشهاداتهم الدّراسية لا تفيدهم في سوريا، وملاحقات أمنية لا تتوقف على قراهم. الثّورة تنجب مقاتلين جدداً، والمعارك تتّسع، ويشتدّ قصف الطيران على البلدات الجبلية. تزداد الحماسة القومية للكُرد في أماكن أخرى، القرى الحدودية – جم شيرين- على طرفي دجلة (الضّفة الشّرقية للعراق، والضّفة الغربية لسوريا) تُصبح ساحةً ومعبراً مؤقتاً لنقل المقاتلين والزوادة، وتمدّ الثورة بالمقاتلين المتطوعين.
تبيّنُ الرّواية أنّ قوة الثّورة في تعاون كلّ شرائح المجتمع، فمعلم القرية، مثقف متنور يرشد الشباب ويخلق لديهم الحماسة، فيلتحقون بالثورة، والنساء يوفّرن لهم الطعام، ويضمدن الجرحى. الثورة الكردية، الحاضنة الشعبية لها، والتفاصيل الصغيرة في الأرياف الكردية محور هذا العمل الأدبي. «معلم القرية إبراهيم، أصغرهم سناً، عندما يتكلم يلزم الجميع الصمت، يخدم أبناء قريته والقرى المجاورة بمسؤولية، مندوبهم في الدوائر الحكومية والمعاملات الرسمية، يرافقهم حتى في المشافي والعيادات الطبية».
اللغة السردية في هذا النّصّ بقيت أسيرة الأدلجة السّياسية، والخطاب الرّوائي يطغى عليه الخطاب السياسي في عدة مستويات، منها الخطاب السياسي لدى القرويين البسطاء. النّساء القرويات يجتمعن أمام تنور القرية، يتبادلن الأخبار ويخبزن، تقول إحداهن: « أنا أمنيتي أن أرى أحد البيشمركه لأقبل جبينه، شماخه الأحمر، بندقيته».. الرّوح القومية المنتعشة لدى الكُرد البسطاء، تتجلّى في أمنية المرأة بتقبيل جبين المقاتل الكردي «البيشمركه» وبندقيته. فالثورة التي تشكّل آماني النّاس، وتشمخ في قلوبهم، لن تنتكس، بل ستنتصر ولو بعد حين. الخطاب الرّوائي يعكس الواقع المعيش لأحداث الثّورة، أسلوب الخطاب لدى المقاتلين جاء مطابقاً للخطاب العسكري ومشابهاً لِما عند الآخرين الحالمين بنتائج الثورة «تلك الجبال كانت ولا تزال عنواناً لنضالنا الثوري، منها ننطلق وإليها نعود – لن ننحني – لن ننحني ».

عندما يكون المرءُ مقموعاً، مُحارَباً من إخوته في الدين والثقافة والتاريخ، وتكون لغتُه واسمُه، وألوان لباسه ممنوعةً، ويصل القمعُ إلى حدوده القصوى، إلى حدّ القتل الجماعي، سيرسمُ خريطة بلاده على أيّ سطحٍ مهما كان متحركاً، سيحتفظُ بملامح وجوده ككائنٍ يسعى إلى البقاء، حيث الغريزة الفطرية للكائنات.

من الطبيعي أن تتأثّر اللغة السّردية بالخطاب الأيديولوجي، كما في الفصول الثلاثة الأولى، بينما انحسرت في الفصول الأخيرة لصالح اللغة الفنية، ويبدو أنّ الكاتبة أرادت التخفيف من ضغط الخطاب السياسي، واللجوء إلى التدفق اللغوي السلس. « تذكر زوجته وهي تعد له صرة الطعام وتودعه كل صباح، لتستقبله مع أولادها بابتسامتها الملائكية، كان يستمدّ إرادته في لحظات ضعفه من صدى كلامها في مسمعه رغم قساوة التعذيب». الرواية تحفل بالأيديولوجيا السياسية، التي يمكن وصف مفهومها، سواء كان سياسياً أو دينياً، أو فكرياً، بكونها وعياً فردياً «ذاتياً» أو جماعياً يتّصل بإدراك العالم. لكننا نعرف أنّ من سمات الأدب اتصاله الوثيق بالكتابة الفنية التي تعبّر بطريقة ما عن الفردانية، التي يجدها الكثيرون من ملامح المجتمع البورجوازي، والمجتمع المدني «في المدينة» بينما الأيديولوجية ترتبط بالوعي الجماعي، والاعتقاد الجماعي بفكرة ما والدفاع عنها بكلّ السّبل.
يرى الكاتب المغربي عبد الرحيم جيران أنّ علاقة الرواية بالأيديولوجيا، تتصف «بطابع إشكالي يتّخذ صبغة عويصة. ومن السائد الذي ينزل منزلة اليقين أنّ الأدب برمّته لا يخلو من أن يُعبِّر عن توجهّات أيديولوجية مُعيَّنة، وفق تصوّر ج. لوكاتش الذي يَعُدٌّ كلّ أفعال البشر مُندرجة في الأيديولوجيا» («القدس العربي» 5 يناير/يناير 2017 ).
كلما تجلّت ظلال الأيديولوجيا – الاعتقاد المسبق للمرء، في العمل الفنّي – نواجه هذا السؤال الإشكالي: ما وظيفة الأدب والفن؟ وعمّا إذا كان «الفن للفن» أم الفن للتغيير.
وتجنّباً لمقولة الفن للفن، تطرح الكاتبة كثيراً من الأفكار بشكل مباشر، رغم بحثها عن اللغة الفنية لاستيفاء قواعد العمل الفنّي للنّصّ.
ترد في الرواية صورٌ كثير عن طبيعة الحرب المُدمِّرة التي يشنّها الجيش العراقي على القرى الكردية، وهي رواية تؤرخ الثورة، التي تعني رفض الواقع، والعمل على إحداث تغييرٍ في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، من خلال وسائل سلمية أو مسلحة. فإذا كانت الوسائل السلمية غير ممكنة فلا بدّ من العمل المسلح، وهذا كان في الواقع الكردي، وفي الأدب، تُحوِّل رواية الثورة القارئ إلى إنسانٍ ثوري، كما يحوّل المسرح الثوري المشاهد إلى ثائر. يقف أحمد «بقامته الطويلة والنور يشع من عينيه الخضراوين التي لا تهاب الصعاب:
– لقد قررت أن أصبح بيشمركه وألتحق بثورة أيلول.
التفتت إليه الأبصار وسط مشاعر مختلطة، مختلفة، لا تخلو من تعابير الدهشة الظاهرة للعيان، وأخرى اختبأت بين تجاعيد أجبنهم وصعب تفسير ماهياتها».

مشاهد الريف الكردي

من الغايات الأساسية للرواية – بوصفها عملاً فنياً – تجسيد صور الحياة الإنسانية بصورة أعمق مما يعتقده الإنسان، ونقلها إلى القارئ. ومن الصور الاجتماعية الكردية، المضافة، المكان الذي يؤثّر في تشكيل الوعي الكردي، وصياغة الموقف السياسي الجماعي، وهكذا تتحوّل مضافة القرية إلى مركزٍ سياسي: «امتلأت المضافة بالمناقشات المقترنة بإرادة لا تهزمها أي ديكتاتورية، وبالتحليل البسيط النابع من طبيعتهم للأمور السياسية، وشعورهم القومي، كعادة الكرد أينما وجدوا وجدت السياسة وسياستهم هي عشقهم لقضيتهم». وتحفل الرّواية بمشاهد من حياة الريف الكردي، التي تتميّز بالعمل التعاوني الجماعي، كأعمال الحصاد، وصيانة البيوت الطينية، وتخزين المؤن الشتوية، والمشهد التالي يذكّر القارئ بطقوس سلق القمح في الخريف، «في طناجر كبيرة، رائحتها تملأ سماء القرية، خلال ثوان ودون اتفاق مسبق، يجتمع صغار القرية أمام الطناجر، حاملين صحونهم وعيونهم تأكل حبات القمح مع بخارها، ينتظرون بحماس حتى يستوي القمح، يراقبون مراحل السلق من الألف إلى الياء».
من جانب آخر تذكرُ الرّواية طبيعة العمل السياسي السّري في الريف الكردي، فالقمع الشديد لأي نشاط سياسي كردي، دفع بهم إلى تأسيس التنظيمات السياسية السرية، وكانت تجري الأنشطة كلها خفية، كالاحتفال بعيد النورز، والاجتماعات الحزبية، ويقتصر دور المرأة في مهمات المراقبة، تحسباً لأي مداهمات فجائية: «الظلام يبتلع المكان، الهواء البارد يترك آثار صفعاته الحمر على ملامح وجهها. بكل حب تتفقد الزوجة نازي تلك الزوايا المظلمة بإضاءة خفيفة من المصباح الذي تحمله بيدها اليسرى، إضاءته تكسر حاجز الظلام». وفي السيّاق ذاته اجتماع القرويين حول الراديو للاستماع لنشرة الأخبار من «صوت كردستان» الإذاعة التي باتت المتنفّس الوحيد للكُرد.

تصوير المعارك

عندما يكون المرءُ مقموعاً، مُحارَباً من إخوته في الدين والثقافة والتاريخ، وتكون لغتُه واسمُه، وألوان لباسه ممنوعةً، ويصل القمعُ إلى حدوده القصوى، إلى حدّ القتل الجماعي، سيرسمُ خريطة بلاده على أيّ سطحٍ مهما كان متحركاً، سيحتفظُ بملامح وجوده ككائنٍ يسعى إلى البقاء، حيث الغريزة الفطرية للكائنات. الخريطةُ القلقة التي نهشتها أطماع الجوار تلبسها الكردياتُ عقداً ذهبياً، آما آزاد البيشمركة فيترجم مشاعره بشكلٍ مختلف، حيث «يرسم بقلمه حدود كردستان على تلك الخريطة الكبيرة للشرق الأوسط التي كانت بحوزته، الحدود المرسومة أصبحت بخطوط غامقة، تجذب عين الناظر للخريطة قبل أي حدود أخرى». اكتسب عشقه لرسم الخريطة، أيام دراسته الأولى، كنّا مثله نبحث في كتاب الجغرافيا وأطلس الخرائط عن خريطة كردستان، فنجد كلّ الخرائط، لدولٍ صغيرة وكبيرة، فلا نعثر على خريطة كردستان التي صعدت من القلوب إلى الأرض بعد ثورة بارزاني، وآزاد كان يرسمها بطريقته: «تذكر كيف كان يرسم بعصاه تلك الحدود على التراب في قريته، بعد أن كان رسمُها على ورقة بيضاء ولو في السّر، جريمة لا تغتفر. محاولات طمس الهوية لم تتوقف أبداً».
العمل الثوري العسكري في الجبل، قصف الطيران للبلدات الكردية، حياة البيشمركة، المضافة القروية في الرّيف الكردي، العمل السياسي السري، المداهمات الأمنية المتكررة، التحاق الشباب بالثورة بوصفها اليقين الوحيد للتخلص من الظلم، تلك هي عوالِم رواية «خارطة الجبل» التجربة الروائية الأولى لزهرة أحمد، بعد ثلاثة أعمال قصصية.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية