خبيصة

انتصار طيب للدستورية والمدنية في الكويت حققه لها النظام القضائي حين حكمت المحكمة الدستورية بعدم دستورية قانون التشبه بالجنس الآخر، وهو قانون لطالما أحدث شروخاً هائلة على المستوى الشخصي للأفراد والمستوى العام للمجتمع بتطبيقاته المختلفة منذ سنة 2007. هذا القانون الفضفاض الذي ينص على أنه «من أتى إشارة أو فعلاً مخلاً بالحياء في مكان عام بحيث يراه أو يسمعه من كان في مكان عام، أو تشبه بالجنس الآخر بأي صورة من الصور، يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز سنة واحدة، وبغرامة لا تجاوز ألف دينار، أو بإحدى هاتين العقوبتين» هو قانون يسمح باتخاذ إجراءات قاسية تجاه فعل لا حدود ولا ضوابط مذكورة له في القانون كما يفترض لأي تشريع أن يفعل. إلا أن المشكلة لا تتوقف عند فضفاضية القانون وعدم توصيفه الواضح «للجريمة» إنما تتعداها لما هو أكبر بكثير، لاعتبار اختيار المظهر، مهما لاقى من استياء مجتمعي أو تقييم ديني، فعلاً يعاقب عليه القانون. تلك هي المشكلة الحقيقية.
هذا القانون وشبيهه حول العالم العربي، بل وغيابه أحياناً لتَفْرد بعض الدول عضلاتها على المختلفين جندرياً حتى بلا نص قانوني، كل هذه المعطيات تشكل كارثة إنسانية في محيطنا المنغلق الضيق. يغيب عن الناس أن التشريع القانوني عملية مدنية بحتة تحدد علاقة الفرد بالدولة والغير، وليست عملية تقييمية أخلاقية أو حكمية دينية. يقول الخبير الدستوري الكويتي د. محمد الفيلي، في ندوة له حول الموضوع: «نحن أمام إشكالات صناعة التشريع، فنحن عندما نصنع التشريع يفترض أن نلتزم بعدد من القواعد لتقليل عدم ملاءمة التشريع ولتقليل الإشكالات الدستورية. الأصل في كل التشريعات أن الفعل مباح ما لم يلحق ضرراً بالمجتمع… وهذه مسألة مرتبطة بالقانون الجنائي أكثر من بقية القوانين… الجانب الديني يقوم على فكرة مختلفة… وهناك آلية للتحفيز مختلفة عن القانون». يذهب الدكتور للتفريق بين «الفعل وآثاره» متسائلاً: هل تنحى الدولة لتجريم التشبه لأصله، وقد يكون ناتجاً عن مرض أو خلل جسماني يستوجب التحول أو العبور من جنس إلى آخر، وهو أمر لا يفهمه أو «لا يحسنه المشرع» أم هل تجرم الدولة الآثار، ألا وهي التي -حسب تعبير الدكتور- تمس «بالأمن العرضي» وتشعر الناس بعدم الأمان؟
التشريع الملغى الآن في الكويت مثله مثل التشريعات حول العالم العربي؛ هو تشريع «انفعالي» حسب توصيف الدكتور، يرمي من خلاله المشرع لحماية الدين الذي هو فعل لا يدخل في اختصاصه ولا هو منوط به. النائب البرلماني هو مُشَرِّع لدولة مدنية، إلا أن الحاصل هو أنه ينحى للتشريع الانفعالي دون توضيح الآثار أو المضار ودون حتى، في حالة قانون التشبه، التفريق بين الحالة الطبية والحالة الاختيارية، منتهياً لصياغة قانون هلامي يجرم الفعل بكليته، دون اعتبار للمرض، للاختيار، للمدنية، وللحق الإنساني في اختيار أسلوب الحياة. تتفاقم هذه المشكلة حين يدخل القانون حيز التنفيذ، ما محددات التشبه بالجنس الآخر؟ ما موعزات التشريع ضده؟ ما الذي أخرج الفعل من حيز حق الإنسان في اختيار مظهره إلى حيز الإثم الديني؟ لماذا تجرم الدولة المدنية على أساس التقييم الديني؟ ما محددات التقييم الديني ومن له الحق في إقامتها؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تتداخل حين يخلط المشرع بانفعال وتسرع بين دوره التشريعي في الدولة المدنية، وبين تقييمه الديني وأخلاقياته الخاصة، منصّباً نفسه قيّماً على المجتمع ومراقباً دينياً وأخلاقياً عليه.
يهدد اللوبي الديني المحافظ في الكويت اليوم بالعودة بتشريع أشد وأقسى، تشريع سيحدد كافة التوصيفات المطلوبة للتشبه وبعقوبات أشد، وكأن الانتصار للحرية والحق الإنساني في اختيار المظهر هو انتصار ضد الدين، وكأنهم يقولون إن كل الحريات الشخصية تنتفي تحت مظلة الدين، وكأنهم يفترضون أن كل الأفراد في الكويت ينتمون لذات الدين، ذات المذهب، وذات الفهم والتقييم لهذا الدين ومذهبه. كم يضيقون الدنيا على الناس! كم يوحدون المنظور على تعدده ويحاربون التنوع رغم صحيته!
لقد عانى العابرون وغيرهم من المتعددين جندرياً بشدة من هذا القانون ومن مخلفاته التي ليس أقلها المعاناة من الاضطهاد والتحرش في السجن الذي دخلوه، لكن الموضوع لا يقف عند هذا الحد، هذا تشريع يخلق سابقة الدخول في نوايا الناس والحكم على مقاصدهم دون حتى التحقق والإثبات، ويعاقب على المظهر، وهو موضوع خاص غير مؤثر عند العامة، من منطلق أن المظهر محكوم بتقييم ديني. ما الذي سيمنع إذن فرض الحجاب واللحية مستقبلاً من المنطلقات نفسها؟
وما يزيد الطين بلة هو أنه وإلى الآن لا يفرق الناس بين العبور المظهري، سواء اختياراً أو لسبب طبي، وبين الإخلال بالآداب العامة أو إتيان فعل فاضح. فالشعر القصير ولبس البنطال من قِبل فتاة ليُظهرها بمظهر فتى، هو وإن كان غير مقبول مجتمعياً ومحرماً عند البعض دينياً، إلا أنه في الحقيقة ليس فعلاً فاضحاً. هناك فرق بين المشي عارياً مثلاً أو إتيان تصرف حميمي في الشارع العام، وتلك تحت القانون الكويتي أفعال فاضحة، عن أن يضع فتى أحمر شفاه مثالاً. الأول واضح التصادم مع القوانين وآداب الشارع، في حين أن الثاني يلاقي نفوراً اجتماعياً وغضباً أخلاقياً، لكنه ليس فعلاً فاضحاً، لم يظهر من خلاله الفتى جزءاً من جسده، ولم يرتكب فعلاً حميمياً أو مخلاً في الشاعر العام. إلى اليوم، شارعنا العام غير قادر فعلياً على التفريق بين ما «يضايقه» وبين ما «يخل بأمنه العرضي» حسب توصيف الدكتور.
الحريات موضوع شائك في عالمنا الشرق أوسطي الداكن، مجتمعاتنا تفضل الإبقاء على هذه «الدكانة» باعتماد التخفي والنفاق السلوكي، وهو ما يتعارض أصلاً مع مفهوم الحرية. ندعي أننا نريد الحريات بل ونحترمها، إلا أننا لا نريد أن ندفع ثمنها، لا نريد أن نتعامل مع إزعاجاتها المتوقعة. عالم داكن غريب هو عالمنا، تحاكم فيه دولنا المدنية نوايانا الدينية، وينحى فيه مشرعونا لقسرنا على دخول الجنة أو تفادي دخول النار، ما هذه الخبيصة العويصة؟

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حكمة حسين:

    هذه إضاءة مهمة على موضوع حيوي وهام في المجتمعات العربية التي لازالت قوانينها وتشريعاتها تنطلق من أفكار قرون بعيدة. قرار المحكمة الدستورية سابقة ايجابية في المنطقة، وهذا الصراع بين التخلف وحقوق الانسان سيستمر لمديات بعيدة، ولكن سنة الحياة ستنتصر للغة العقل والمنطق والحريات. جزيل الشكر لكِ سيدتس، ودمتِ بخير

    1. يقول منير الصقري:

      كفاكم متاجرة بالحقوق والحريات
      حقوق الإنسان ليس في الشذوذ وحياة البهائم والحريات بعيدة عن هذه الأفعال والتوصيفات النفاقية
      تطوروا بالعلم والثقافة والقراءة ومحاربة الاستبداد والظلم وليس بالشذوذ والتفاهات.

  2. يقول سيف كرار... السودان:

    هنالك كتاب ظريف وخفيف يسمي… الرجوله المتخيلة… للكاتبه مي غصوب.. يتناول مسألة الرجل والمرأه بطريقه سلسله.. مثلا.. عندما يبكي الرجل يقال له البكاء للنساء اجمد شويه.. هذا التشابه بين الجنسين موجود.. أيضا اغنية جيمس براون it’s man man world انه عالم الرجل الرجل… لكننا نجد النساء تستمع لهذه الاغنيه بشوي لأن لغة الموسيقي لها سحرها الخاص.. وهذا تشابه بين الجنسين حتي في الرقص…

  3. يقول جبارعبدالزهرالعبودي من العراق:

    حماية الاجيال من التفسخ الاخلاقي والتشبه المنافي للسلامة الجندرية ليس فقط من مسؤولية الدين الذي لم يعد اليوم حاضرا في حياة الناس بقوانينه التي انحسرت بعد حلول الفوانين الوضعية بدلا منها فالدين ليس له علاقة وبريء من سن القوانين المدنية الوضعية على خلفية تشريعات مادية تقيد او تحدد من حرية الناس

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    عزيزي سلام مرحباً بتعقيبك الذي تشكك فيه بنزاهة الإنتخابات الكويتية!
    هل نسيت بأنه لا أحد من البشر بإمكانه معرفة ماذا إنتخب فلان أو فلانة؟
    فكيف تخاف المرأة من إنتخاب من تراه مناسباً ؟ !! ولا حول ولا قوة الا بالله

  5. يقول الكروي داود النرويج:

    طرفة واقعية:
    أنا عضو بحزب العمال النرويجي, وزوجتي عضوة بحزب الوسط النرويجي!
    في إنتخابات البلدية سنة 2015 لم تنتخبني زوجتي بسبب ولاؤها السياسي لحزبها,
    ولكن في إنتخابات 2019 إنتخبتها, لأنها ببساطة تمثل الأجانب!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  6. يقول محي الدين احمد علي:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اخي عادل سآتي . انا رجل على أبواب الثمانين عام عايش في اليونان من سنة 1971 يعني تقريبا 50 عام وسافرت تقريبا الى بلاد أوروبا 15 دولة والله العظيم شوفت العجب وسمعت من نساء العربي وهو في أوروبا من 5 سنوات ومن يهاجم بلده ومن ينظر لي اهل بلده نظرت استعلاء ومن يحلل الشذوذ طبع دول شواذ القعدة ولكن المطلوب من كل انسان انه يحافظ على دينه وعلى سمعة بلده وعلى نفسه واسرته نحن لنا دين عظيم و عادة وتقليد العالم كله بحسدنا عليها . . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون . وشكرا

  7. يقول الكروي داود النرويج:

    العقل والنَّقْل مصطلحان ما قُدِّم أحدهما على الآخر إلا بشرط اليقينية لا الهوى، فلا اعتبار بأمرٍ عقليٍّ ظنيٍّ مقابل النقلي اليقيني، والعكس صحيح، ويستحيل حدوثُ تساوي اليقينية بينهما في نفس الأمر؛ إذ ذلك يتطلَّب تعارضهما، والله أكرم من أن يكون شرعه يُناقض عقلًا جعله من الضرورات الخمس، وحثَّ على استخدامه والتفكُّر به، ويحضرني أن أستدلَّ بمقولة لشيخ الإسلام ابن تيمية، يقول فيها: “ما خالف العقلَ الصريح فهو باطلٌ، وليس في الكتاب والسنَّة والإجماع باطلٌ، ولكن فيها ألفاظٌ قد لا يفهمُها بعضُ النَّاس، أو يفهمون منها معنًى باطلًا، فالآفةُ منهم، لا من الكتاب والسُّنَّة”.
    وإن حدث تعارُضٌ بينهما فتأكَّد أنك لم تستخدمْ عقلك في الموضع الذي خلقه اللهُ لأجله، فمصطلح العقل لم يُذكر صريحًا في القرآن باسمه (العقل)، ولكن ذُكرتْ تصريفاتُه وأفعالُه، فلِمَ استخدامه في غير ما خُلِق له؟!
    – شبكة الألولة –

  8. يقول الكروي داود النرويج:

    قال ابن القيم رحمه الله: “وكل من له مسكة مِن عقلٍ يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ مِن تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل…، فلا إله إلا الله، كم نُفي بهذه الآراء من حقٍّ، وأُثْبِت بها مِن باطل، وأُميتَ بها مِن هدى، وأُحيي بها من ضلالة! وكم هُدم مِن معقل الإيمان، وعُمِّر بها من دين الشيطان!”.
    إن الله تعالى خلَق عقل العباد محصورًا، لا يُدرك أمورًا كثيرة، وجعل له وظائف، فخلق الله العقل لوظائف هو أهلٌ لها من اجتهاد العلماء بعقولهم في استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية، وتطلُّب مراد الله، واجتناب اتِّباع الهوى قدر المستطاع، وخصوصًا للقضايا المستجدة كالصلاة في الطائرة، وأمور الزينة التي استجدَّت، ولم تكن في زمن الوحي؛ كالتشقير، وعمارة الأرض والاستخلاف فيها، والاختراعات، وسائر المكتشفات التي تطوِّر حياة البشر؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61].
    – شبكة الألولة –

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية