خديجة وهواري: اسمان يختزلان مأساة الجزائر

حجم الخط
16

حدَثان هزَّا المجتمع الجزائري في الأيام الماضية وكشفا، مرة أخرى، أن هناك من يريد الإبقاء عليه غارقا في الهوامش: وفاة مطرب شعبي أثناء عملية شفط دهون، وفوز شابة من أعماق الصحراء بمسابقة ملكة جمال الجزائر. الأول اهتز لموته المجتمع لأنه، على ما يبدو، صاحب ميول جنسية مثلية. والثانية اهتز لفوزها المجتمع لأنها داكنة البشرة وتنحدر من منطقة خارج حزام الجزائر المفيدة.
وفاة المطرب هواري منار في ربيع العمر أثناء عملية جراحية، يُفترض أنها بسيطة وتجرى مئات المرات في اليوم حتى في بلدان متخلفة، لم تحرّك الضمائر الجزائرية إلا من حيث كون الفقيد كان مطربا شعبيا وصاحب ميول جنسية مثلية. لا أحد سأل عن ظروف وفاته. ولا أحد طالب بتحقيق في الوفاة. ولا أحد تحدث عن المنظومة الصحية المهترئة. لكن الدنيا قامت تتساءل هل يجب الترحم عليه أم لا. هل تجوز الصلاة على جثمانه أم لا. هل يستحق الدعاء له أم لا. هل يصح حضور جنازته أم لا!
هذه المأساة الشخصية والعائلية والطبية التي استفزت كل الناس، لم تستفز وزير الصحة باعتبارها وقعت في نطاق اختصاصه وقطاعه المنكوب إلى حد يفوق العقل. لكنها تطلبت تدخل «نجم الشاشة» المفتي غير الرسمي للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، الشيخ شمس الدين بوروبي. كانت فتوى الشيخ بوروبي، على الرغم من أنها في صالح الفقيد، ذروة المصيبة، لأنها كرَّست القضية في إطار ديني ـ أخلاقي، بعيدا عن طابعها المدني والقانوني.
خديجة بن حمو شابة دون العشرين تنحدر من منطقة أدرار (حوالي 1500 كلم جنوب غرب العاصمة)، فازت بمسابقة ملكة جمال الجزائر، فانطلقت آلة التشهير والفتوى. وانتهى الاعتقاد إلى أن النقاش بُني على مشاعر عنصرية، لأن خديجة سمراء البشرة أولاُ وتنحدر من الجزائر الهامشية ثانياً. وبسرعة انشغل المجتمع، عبر وسائل التعبير فيه، بهذا الموضوع كأنه حلَ كل مشاكله
وبقيت له مشكلة خديجة.

وسائل الإعلام، بكل أنواعها واتجاهاتها، غارقة في الضحالة والتسطيح، عاجزة عن تنظيم نقاشات جادة في أيّ مجال. البلد مقفل أمام حركة البشر وأمام السياحة والفعاليات الدولية والإقليمية

يصعب تصنيف المواقف من هذه الشابة تحت عنوان العنصرية. العنصرية شعور يطفو عندما يؤمن شخص بأنه ينتمي إلى عرق أفضل من الآخرين، ثم يبدأ التصرف وفقا لذلك الإيمان. في الجزائر لا يوجد إنسان، أو فئة، لديه إيمان بأنه أرقى من الآخرين. هناك انحرافات نفسية/اجتماعية ضربت الكثيرين: سكان المدن الكبرى يسخرون من سكان البلدات، وسكان البلدات يحتقرون سكان الأرياف، وسكان الأرياف يتنكرون لسكان الأرياف الأبعد منهم وهكذا. وهناك غرور اجتماعي ينبع من أمراض نفسية وأوهام اجتماعية وثقافية. هناك أيضا طبقية اجتماعية واقتصادية، لكنها في النفسيات فقط، لأن الغني لا ينفعه غناه كثيرا بحيث يجعله منفصلا عن الفقير أو المنتسب للطبقة الوسطى: يتسوقون جميعا في سوق واحدة، يقصدون المقاهي ذاتها، ويستعملون الطريق العام ذاته، ويسافرون عبر شركة الطيران ذاتها.
عدا ذلك، الجزائريون متساوون، بل هم ذاتهم ضحايا عنصرية الآخرين خارج بلادهم. وبدلاً من الحديث عن العنصرية، يجدر التأمل في أمراض اجتماعية/نفسية تتكرس وتتعمق باستمرار.
من الإنصاف القول إن كل المجتمعات منكوبة في هذا الزمن، كلٌ على طريقته. والأسباب موجودة في التغييرات البشرية والاجتماعية التكنولوجية التي فرضت نفسها على العالم وفعلت بالناس ما فعلت.
لكن المجتمع الجزائري زاد عن المجتمعات الأخرى بذهابه بعيداً في الاحتفاء بالقضايا الهامشية، وبمعاناته من فراغ سمح لكل الناس بالفتوى في كل شيء. لهذا لا يجب أن يُستغرَب أن الدنيا قامت في القضيتين المذكورتين.
لسوء حظ الجزائر اليوم أنها بلا رموز اجتماعية موثوق فيها، وبلا نماذج. لا رجال سياسة، ولا علماء، ولا فنانين، ولا مثقفين، ولا رياضيين. لا أدب جدير بالذكر، ولا سينما ولا غناء يستحق الاحترام. الأدب القليل الموجود يستهدف غير الجزائريين. الأفلام النادرة جداً تُنتج في جغرافيا أخرى وليس لها من الجزائر إلا اسم المخرج أو عنوان الفيلم. التأليف الغنائي والموسيقي متوقف، ما يفسر أن الجزائريين يطربون حتى الثمالة لأغانٍ عمرها عشرات وربما مئات السنين، يعاد تدويرها كيفما كان. وسائل الإعلام، بكل أنواعها واتجاهاتها، غارقة في الضحالة والتسطيح، عاجزة عن تنظيم نقاشات جادة في أيّ مجال. البلد مقفل أمام حركة البشر وأمام السياحة والفعاليات الدولية والإقليمية. المجال الوحيد المفتوح هو هامش المظاهر والتعبيرات الدينية. لكن حتى رجال الدين فقدوا تأثيرهم الروحي.. يستمع لهم الناس في المساجد والخطب التلفزيونية، ثم يفعلون عكس ما قال الإمام أو المفتي.
نحن، إذن، أمام ظلام دامس هو نتيجة تراكمات طويلة. العنوان هذه المرة خديجة وهواري. لكن هناك عناوين سابقة وأخرى لاحقة.
المجتمع الجزائري في وضع محيّر: هل تشفق عليه أم تقول «هنيئا لأعدائه به». إنه بحاجة إلى «شغل» كثير، بل إلى معجزة.

كاتب صحافي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فاطمة:

    انا جزاءرية و أوافقك القول و اريد ان أزيد ان الجزائريين يعانون كذالك من مرض اسمه الbipolar . صح لسانك أيها الالصحافي البارع.

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    إشغال الجزائريين عن العهدة الخامسة للرئيس المزمن! أما آن أوان التغيير؟ أم لعله التوريث؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول احمد:

      لا خامسة ولا توريث اخي الكروي بل هي مصيبة اكبر من ذلك

  3. يقول عبد الكريم البيضاوي.:

    “…لأن الغني لا ينفعه غناه كثيرا بحيث يجعله منفصلا عن الفقير أو المنتسب للطبقة الوسطى: يتسوقون جميعا في سوق واحدة، يقصدون المقاهي ذاتها، ويستعملون الطريق العام ذاته، ويسافرون عبر شركة الطيران ذاتها…”

    ياأخ توفيق , هل تتحدث عن مجتمع شمال افريقي عربي أمازيغي تغيب فيه العدالة الإجتماعية والسياسية والإقتصادية أم عن مجتمع اسكندنافي ؟

  4. يقول عبد الوهاب عليوات:

    لم يكن انتقاد فوز خديجة بسبب سمرتها ولكن بسبب ملامحها التي لا تخولها بأي شكل أن تكون أجمل نساء الجزائر حتى لو كانت شهباء كمونرو.. وموت المنار الذي لم تتعد شهرته الكبتريهات التي كان ينشط فيها كانت بالأساس مناحة فيسبوكية بين الأخلاقيين الذين يرفعون راية العقوبات الالاهية للمنحرفين وبين من يرفض اغتصاب حق الحديث باسم قدسية الدين للحد من الحريات الشخصية.
    وعلى كل حال فإن الجزائر تغلي بالأحداث السياسية والاجتماعية التي تستدعي اهتماما خاصا بالتحليل لخطورتها.. وما خديجة والهواري سوى متفرقات هامشية لا يمكن بأي حال أن تعدو كونها مظهر للمراهقة الفيسبوكية.

  5. يقول إلياس الجزائر:

    السلام عليكم..إن هذا الظلام الدامس الذي تتكلم عنه أيها الأخ هو ظلام عالمي و الجزائر ليست إستثناء،فمتابعة الناس لأخبار لا قيمة لها من الصباح إلى المساء(ملكة جمال!،موت مثلي،موت إنسان داخل بئر ماء،تنابز بالألقاب،لغو يتبعه لغو إلخ.. الخزعبلات) و العكوف على تماثيل عصرية( هواتف ذكية) من الصباح إلى المساء دون فائدة تذكر! إلا من رحم الله يتبع

  6. يقول إلياس الجزائر:

    ..فكل ما يحدث يوضح أن أغلب الناس أصبحوا أشباح أو قل أجسادا بلا أرواح،تتقاذفهم أمواج العبث لبعدهم عن الروحانية وولوجهم عالم المادية من الرأس إلى أخمص القدمين.. فالمسؤول ماهو بمسؤول إلا ماندر،و أصبح الركض وراء اللذة و الكسب بكل الطرق هو الهدف،و ضاعت الأمانة و كثر اللغط و السخط و هاجت أمواج غضب الله من حدب..يتبع

  7. يقول إلياس الجزائر:

    ..نسوا الآخرة فسلط الله عليهم الدنيا فقطعتهم بأنيابها :(” قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ (126)”) يتبع.

  8. يقول إلياس الجزائر:

    ..فهل علمتم سبب هذه الفتن؟ إنه نسيان نداء السماء فأين المفر؟ سيكون جواب السعيد: إلى الله :(” فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (51).. ”)..و السلام على من إتبع الهدى..

  9. يقول ابن الجاحظ:

    ” يجوز أو لا يجوز “…….. هى المشكلة الام…..عند كل الشعوب العربة…..و النتيجة أمام الجميع……

  10. يقول عصفور:

    متى ندرك الفرق بين الدمية الجميلة و بين الإنساتة الجميلة ؟ العنصرية هي من أقبح الصفات و بالتالي فإن العنصري ليس مؤهلا للحديث عن الجمال. الدول العربية الأخرى ليست أفضل حالا من الجزائر.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية