خديعة السرد أم موت التاريخ؟

هل وظيفة الروائي أن يخادعَ القراء، أو أن يزحزحَ ما هو تاريخي لصالح ما هو سردي في ذاكرتهم؟ أم أنّ السرد هو اللعبة الفائقة، والمخاتلة التي سيلجأ لها الروائي لـ«تمويت» التاريخ، أو للسخرية منه، ولإخضاعه لسلطة السارد والحكواتي والمعارض..
أظن أنّ هذه الأسئلة المُفارِقة، تكفي لوضع الروائي أمام القضاء، واتهامه بالغشِّ والمروق والتضليل والتجاوز على فكرة «الثابت» و«الموروث» بكلّ ما تعنيه من اعتبارات رمزية، ومن امتيازات راكزة في اللاوعي الجمعي، ومن بداهات روّجت لها شفاهيات الحكاية، التي لم تكن بعيدة عن السلطة، ولا عن علاقاتها مع «الحسبة» والجماعة، التي تعكس – في جوهرها- ما هو خفي في علاقة تلك السلطة بالفقه، والمُقدّس بالجمهور وبصناعة المُريد والتابع.
صنعة الرواية، هي لعبة التجاوز، التي بتطور مفهوم الحكي، ومفهوم التمدّن، وبنشوء مظاهر التعلّم والتجمّع، والنظام الطبقي، وما رافقها من تحولات كبرى، والتي جعلت من الروائي أكثر تمثيلا لفكرة التجاوز في تشكيل بنية الحكي، وفي علاقتها الإشكالية مع التاريخ والنسق المهيمن، وبمستوى أن يكون الروائي بمستوى «صانع الوعي» المعارض، والمختلف، والمُحرّض على مواجهة السلطة، التي كانت تغشّ كثيرا عبر مدونات التاريخ، وعبر فرضية علاقة التاريخ برواياتها عن الحاكمية والمقدّس والجماعة.. لعبة كتابة الرواية هي لعبة النقائض، إذ تمثل واحدة من أخطر مظاهر القوة الرمزية للروائي، فهي تعني لعبةً في إباحة التأليف، والتأليف بطبيعته هو فعل إزاحة، له دوره في تحفيز التخيّل، وفي اصطناع أحداث وشخصيات وعلاقات وبطولات وصراعات متخيلة، حيث ينزع بعضها إلى طرد أسماء معروفة من النسق الذي كرّسها، كعناوين للسلطة والمُقدّس، وبعضها الآخر يقوم على سردنة أسماء وأحداث وصراعات ومغاز وسير، قد تكون غايتها خلق «تاريخ» ضدي، والتشكيك بما هو سائد في مدونات الجماعة والأمة والسلطة، ولعل تقانة «الميتاسرد»، بوصفها لعبة افتراضية في تغيير موجّهات الحكي، وفي الخروج عن النص، تُعدّ نوعا من الممارسة القصدية في التقويض، أو في تشبيك ما هو تاريخي بما هو سردي، حيث يقوم مشغله التأليفي على استدعاء الوثيقة والمخطوطة والحكاية والرسالة الضائعة أو الخبيئة، التي تُمثّل واحدة من أكثر الخروقات والمقاصد التي ابتكرها العقل السردي، لكي يُبرر مناورته، ومكره وخديعته، ومغامرة تجاوزه على التاريخ والذاكرة والسلطة، إذ يشكّل حضور هذه الـ»مابعدية» حدثا، ليس لكسر الملل والسياق والرتابة، بل لإيجاد ذرائع سردية لتأصيل فكرة التأليف، ولابراز بطولة السارد/ المؤلف، ولبيان طبيعة مرجعيته العصابية والأيديولوجية، مقابل تقويض مركزية الحكواتي القديم، وخطاب السلطة الذي يقف وراء كثير من الأوهام والأكاذيب التي غمرت عالم حكاياتنا الساحرة..

حرية المخيلة ليست بريئة

شراهة الحرية تحمل معها غواية تجاوز المسموح، وكسر تابو الخوف، وهذا ما يُعطيها أفقا واسعا للتخيّل، وللتوسّع في مديات استعمال الأفكار والتعبير عنها، فبقدر ما تعنيه الحرية من وعيٍ وإرادة ومسؤولية، فإنها تعني الفوضى أيضا، حيث تغويل فعل الذات المؤلِفة، وقيمومة حضورها عبر السرد، والاعتراف والتخيّل، وعبر كسر نمطية الإرسال والتلقي، وحيث إكساب تلك الذات طاقة فائقة للحكي، وربما إلى القصدية، بوصفها جزءا من الأيديولوجيا، أو جزءا من المُختلِف والمُعارِض، وربما جزءا من الوعي الشكوكي، الذي لا يثق بالتاريخ، ولا بالجماعة، حيث يجد في لعبة الذات المُفكِّرة نوعا من التمثيل الفلسفي، الذي يدرك الوجود عبر التفكير به، وعبر حرية ما يعرفه، وما يحدْس به.
إنّ إطلاق الحرية من دون التفكير بها قد يجعلها مجالا للفوضى، ولإنتاج العنف، والسرد المضاد، بما فيه السرد الثوري، وهو ما تحدثت عنه جماعة فرانكفورت عن فوضى الحرية التي حدثت بعد الثورة الفرنسية، حيث تحولت الحرية الى استبداد وقهر ومجال لإنتاج تخيّلات وسرديات مقهورة، هي أميل للتوتاليتارية، ولسردنة الرعب والقمع، ولتغييب الآخر المختلف…

العلاقة بين الحرية والتخيّل، لا تعني تخليق منطقة بريئة لكتابة الرواية، ولتسويغ إنتاج سرديات طاردة للتاريخ، ولصياغة حكايات شعبوية أو رمزية، بطلها الهامشي والمطرود والمحذوف، بل إننا نجد بعض الكتابات تعمل على إعادة إنتاج مفهوم البطولة الشعبية.

الهروب من الخوف أو من الاستبداد والاضطهاد لا يعني الهروب نحو حيازة فكرة الحرية، ولا حتى ممارستها، بقدر ما يعني التحريض على تبني فكرة ما للخلاص، ولممارسة رمزية الاعتراف، وهذا ما يجعل فعل التخيّل مفضوحا، ودافعا لتـــبرير كثيرٍ من الأوهام التي تتقــــوّض فيها الـــبراءة، ولاســـتدعاء كثيرٍ من السرديات التي تعالج ما يرافق «مركزية التاريخ» و»مركزية السلطة» و«مركزية النص»، إذ تبدو هذه المركزيات وكأنها تمثيل للسلطة والجماع، مثلما هي النوع الضدي لمفهوم للحرية، أو هي المجال المريب لصنع سرديات تقوم على الأكاذيب الساحرة، تلك التي كان يكتبها الفقيه والواعظ والخطيب، واليوم يكتبها المؤرخ، وحارس البوابة، والحكواتي.
كما أنّ العلاقة بين الحرية والتخيّل، لا تعني تخليق منطقة بريئة لكتابة الرواية، ولتسويغ إنتاج سرديات طاردة للتاريخ، ولصياغة حكايات شعبوية أو رمزية، بطلها الهامشي والمطرود والمحذوف، بل إننا نجد بعض الكتابات تعمل على إعادة إنتاج مفهوم البطولة الشعبية، وكأنها استعادة تعويضية لتاريخ ضدي، حيث تتحول هذه الكتابة/ المناورة إلى مصدر تهديد خفي لمركزية السلطة، ولأُنموذج الحكواتي والفقهي والجماعوي، الذي ظل ينتج أشكالا سردية تتحكم في أغلبها السلطة، أو العقل الشعبوي، أو الجماعة اللاوعية، التي كثيرا ما تصطنع لها خطابات غير بريئة، حيث خطاب الخرافة، والسحر، والعنف والتكفير والزندقة، وغيرها من الخطابات «الصيانية» التي تتعلق بالمصالح، وبالقوى الحاكمة، وأنماط سلطتها ورعب خطابها، الذي أنتج لنا طوال قرون أنماطا من العنف السلطوي، والعنف الديني والطائفي والجندري، وصولا إلى عنف الجماعة الإرهابية التي تُمثّلها سرديات «داعش» و»القاعدة» وغيرها من جماعات الإسلام السياسي والإسلام الأيديولوجي والعسكري.

الرواية وسرديات العنف

العودة إلى العنف المثيولوجي، ليس مُبرِرا لتسويغ الحديث عن العنف البطولي، أو الثوري، لأنّ ما تحفل به تلك «العنفويات» من أحداث ووقائع، أو من علامات سينعكس على طبيعة الخطاب الذي يتمثل وظائفها، وعلى طبيعة النسق الذي تتحرك فيه، أو تُضمر من خلاله مواقف ونزعات وصراعات ومشاعر وسياسات، التي جعلت من فعل السرد في الرواية، وكأنه استبطان لفكرة التاريخ، الذي تكتبه الجماعة أو السلطة، أو ما يحمله متخيلهما الرمزي، والذي جعلت منه تلك السلطة والجماعة مصدرا متعاليا للقوة والأثر، ومجالا للاستشهاد، من خلال العديد من النصوص السردية الحديثة، على مستوى «اشتغالها بالتعالق النصي، كما يسميه سعيد يقطين، أو على مستوى توظيفها في السياق الأيديولوجي والشعبوي/ السيري، أو المستوى الديني.
توظيف الحكاية في الرواية هو جوهر ذلك التعالق السردي، إذ يؤسس اشتغالاته على إبراز الأحداث التي لعبت دورا في صناعة المتخيّل العنفي والشخصيات العنفية، في سياق تمثيلها للتحولات الكبيرة التي ارتبطت بانهيار الدولة العربية الاسلامية، فما كتبه الروائي جمال الغيطاني في رواية «الزيني بركات»، أو ما كتبه الروائي أحمد خلف في روايته القصيرة « تيمور الحزين»، وكذلك ما كتبه الروائي عبد الجبار ناصر في روايته «أيام المستعصم الأخيرة» ورواية بن سالم حميش «مجنون الحكم» وغيرها من الروايات، في سياق إبراز سرديات العنف، بوصفه عنفا للسلطة/ الجماعة، أو عنفا للغزاة، أو خطابا يؤسَّس ثيمته العنفية على طاقة الحكي، التي تمارسها شخصيات سلطوية أو جماعوية، كما في شخصية «الزيني بركات» وفي شخصية «الدويدار» وشخصية «هولاكو» في رواية «أيام المستعصم»، أو شخصية تيمورلنك في رواية أحمد خلف..

٭ كاتب من العراق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول إبراهيم بومسهولي - المغرب:

    عرف العالم فظائع كثيرة جدا، و ربما ساهمت بعض الروايات في العديد من الكوارث، مثل “كوخ العم طوم” التي أشعلت الحرب الأهلية في أمريك.ا وكثير من الروايات، والسرديات عموما، ساهمت في حروب الإنفصال، ناهيك عن مآسي بعض الأفراد الذين أصابهم الهوس والمس جراء قراءة روايات الفروسية، كما أظهر ذلك سرفانتس في “دون كيشوط”، أو الروايات الغرامية، كما أظهر ذلك فلوبير في “مدام بوفاري”. ودرس هذان العملاقان واضح دون لبس : لا يجب أن يهدف الأدب، والرواية خصوصا، لأي شيء جدي ، والأدب الرديء، الممسوخ هو الذي يريد إثبات شيء ما ! وقد يستغرب القارىء إذا عرف أن أغلب حروب اليوم سببها الذاكرة السردية بمختلف تجلياتها، وخصوصا متون الحكي. و قد ورد في كتاب “فايدر” لأفلاطون أن مخترع الكتابة، الأله المصري تحوت، قدم إختراعه هذا للملك تمون، بيد أن هذا الأخير وبخه بشدة لأن هكذا إختراع سيدمر الملكات الطبيعية لدى الناس ولن يخلد سوى السيء من الأمور !

إشترك في قائمتنا البريدية