يضعنا الشاعر خزعل الماجدي أمام فضاءٍ مفتوح للكتابة، ليؤشر لمدى فاعليتها وحيوية تحولاتها، ومدى قدرتها على تخصيب الوعي، وفي توسيع إغواء «التعرّف» على الغائب، إذ تصنع الكتابةُ النصَ والأثر، مثلما تصنع المجال القابل للتشيؤ، حيث النظر واللمس والاحتواء، أي تحويل المكتوب إلى جسد، والكتابة إلى لعبة تشبه الافتراس، وأحسب أن الشعر هو أول الافتراسات المعرفية التي تعرّف عليها الإنسان.
دأب الماجدي، ومنذ بواكير اشتغالاته الشعرية على توسيع لعبة الكتابة، لينتقل فيها من الشعر إلى الأسطورة، ومن كتابة أسفار التاريخ إلى مقاربة الدين والميثولوجيا، وهو ما يعني تقصّده بوعي هذه الانتقالات ـ كما يقول الظاهراتيون- حيث التفكير بحيوية ما تقترحه من حدوس معرفية، ومن مغامرات تدفع إلى البحث عن المعنى، و»الحقيقة» ولاستكناه ما تستدعيه إغواءات الكتابة المفرطة، تلك التي تتحوّل إلى طقوس، وإلى علامات وأناشيد وتراتيل، يستدعي معها المعرفي، والسحري، مثلما يستدعي معها بطولة مواجهة «المتاهة» التي يتوهمها الشاعر وهو يدوّن ملحمته، إذ يغويه قناع المغامر، ليعيش معه متاهة الفارس الإنياذي بلغة فيرجيل، بحثاً عن ذلك السحر الخبيئ، في النص والرقية والتعويذة والأثر، الذي يدفعه إلى لذة الكشف، وإلى يقظة الجسد والإيروس، وإلى استدعاء الخلود، حيث يكون الشعر هو «روح الأشياء» منذ أن كتب مجموعاته الشعرية «يقظة دلمون» أي يقظة المكان الأسطوري، و«أناشيد إسرافيل» وكأن هذا «الإسرافيل» هو عتبة أسطورية أو ميثولوجية ظلت تستفزه للبحث عن الأصول، عن التعالقات ما بين الأسطورة والأثر، عبر اللغة، أو عبر الرمزيات السيمولوجية الخبيئة في الأمكنة أو في الملاحم..
شعرية المطاردة قد تصلح مدخلا للحديث عن فكرة الافتراس المعرفي، ولوعي إشكالية التحوّل في مختبر الماجدي الشعري والأركيولوجي، إذ هي دافعه لتتبّع سيولة الأفكار، وللتيقّظ إزاء ما تُخفيه، أو للتموضع عند أسئلتها التي لا حدود لها، أو عند ما تتسع له في الشعري والسحري والمثيولوجي، والتي تتقبل غواية التجاوز على نفسها، وأحسب أن البحث في محمولات ذلك «المُتسع» لم يعد بعيدا في البحث عن دوافع استدعاء القراءة الإركيولوجية للأثر، إذ هي دافعه للتعرّف، ودافعه لتأصيل المغامرة، ولتتبع إنجازاتها، فهي ظلت لصيقة بمشروعه الشعري، مثلما كانت هي اللصيقة المُستَفِزة في مشروعه المعرفي، إذ لم يغادرها الماجدي لأنها الجوهر الفاعل في اشتغالاته الإركيولوجية، بدءاً من عوالم «تاريخ الأديان، الفكر الديني، وليس انتهاءً عند الدراسات الدينية المقارنة و»علم الأديان» بوصفها علوما تبحث في أصول الخلق والعبادة والوجود واللغة والتدوين، وقراءة مرموزاتها في الأثر، والتي لا تنأى بنفسها كثيرا عن مرموزات الشعر في اللغة.
عناية الماجدي بالأثر، هي نظيرٌ لعنايته باللغة، وأن الكتابة هي اللعبة الأكثر بهاء في تأطير ذلك، لذا وجد في هذه الكتابة/ المغامرة وسائطه، في استقراء الأثر، وفي استنفار ما تحوزه لغته من علامات، ومن أسرار، لها علاقة بالوجود وباللغة، وبفكرة مصير الإنسان، بوصفه جوهر الخلق، والوجود، والبطولة، والسحر، أو بوصفه الكائن الذي لا يُفكّر إلا عبر اللغة، وهو ما يجعله ينزع إلى اصطناع الرموز والأناشيد، لممارسة وجوده المتعالي عبر طقوس العبادة والحب والخصب، وهذه الممارسة ليست بعيدة عن «الجذر الشعري» الذي يبدو وكأنه أصلٌ للأثر، وأصلٌ للغواية، مثلما هو السر الذي ظلّ يمنح اللغة طاقة فائقة للتواصل وللتجاوز، والتأويل، والقراءة، بما فيها قراءة الأثر ذاته، بوصفه مجالا لتدوين النصوص، حتى إنْ كانت سحرية، التي جعلت من الماجدي يتغوى الكتابة الواسعة، والاستغراق بها، وصولا إلى الهوّس بما تحمله من إشارات تتقصى أصل الوجود والعالم.
عناية الماجدي بالأثر، هي نظيرٌ لعنايته باللغة، وأن الكتابة هي اللعبة الأكثر بهاء في تأطير ذلك، لذا وجد في هذه الكتابة/ المغامرة وسائطه، في استقراء الأثر، وفي استنفار ما تحوزه لغته من علامات، ومن أسرار، لها علاقة بالوجود وباللغة، وبفكرة مصير الإنسان، بوصفه جوهر الخلق، والوجود، والبطولة، والسحر، أو بوصفه الكائن الذي لا يُفكّر إلا عبر اللغة
خزائيل وتدوين السيرة
أسطرة الشعرية في مختبر الماجدي بدت أكثر شمولاً، وحدساً، وحتى قاموسه الشعري بدا أكثر احتفاءً بتلك الأسطرة، بوصفها هاجساً، أو دافعاً معرفياّ قام على أساس تنامي العلاقة بين الدين والشعر، أو بين الدين والأسطورة، وأجد أن كتابه الشعري «خزائيل» كان مدخله التمثيلي والترميزي، وحتى الملحمي لمقاربة هذه العلائق. فالتعالق بين مركّب الاسم ليس تجوهرا تعبيرياً لتلك التسمية، بقدر ما أن انطواءها على ثنائية الاسم مع الجذر الأسطوري، تضعنا عند البحث عن جذور الأسطرة في شعريته، وصولا إلى وجودها في طبيعة فهم التعالق ما بين الشعري والإسطوري، الذي كان مهاداً مبكراً لكتابات الماجدي، إذ وضع هذا التعالق بوصفه من الإصول المؤسسة لتجربته، التي دفعته في مرحلة أخرى لمقاربة مباحث الدين القديم، الذي عدّ الماجدي الشعر في إحدى تصريحاته، بإنه «نوع من الدين» إذ هو جزء من طقوس الإنسان في الخصب واللذة، ومن نظامه العبادي، ومن حقوله التي قامت على أساس أسطوري، شمل حكايات الخلق والموت والانبعاث والجحيم والفردوس، التي جعلت من الإنسان بوصفه «ديمو» أو «نبيا» أو « نصف إله» أو «حاكما» كما يتحدث الماجدي..
الشعرية في الغنوصية واحدة من مجالات تلك المقاربة، فهو يوظّفها في إغناء الشعر ذاته، وفي الكشف عن أبعاد التجلّي بوصفها بحثاً عن الحكمة، كما يمكن عدّها جزءا من تقانة التجريب والتغامر، والوعي بشراهة توسيع محمولات الشعرية، لكن ما بدا لي أكثر حيوية هو نزوع الماجدي لترحيل هذه الغنوصية من اشتغاله الشعري إلى مقارباته في دراسة الأديان والأساطير، وفي اتجاه أن تكون مجالا يُعزز مقاربته لـ«مثيولوجيا الخلق»
و«قيامة المقدّس» واستقراء علاقة ذلك بمورثاته في التراث الرافديني القديم، وفي مراحله المتعددة، لاسيما «المندائي» و»الهرمسي» بوصفه «هرمس» وهو شخصية نصف مؤسطرة، يصفها الماجدي بأنه «اأحد ملوك سومر في مرحلة ما قبل الطوفان» مثلما يصف الغنوصية ذاتها بأنها «مفهوم ديني يرتكز على أساس فكرة الخلاص من الخطيئة عن طريق المعرفة» وأحسب أن هاجس المعرفة هو أكثر الدوافع التي جعلت الماجدي يبحث في أصول الأديان القديمة، في العراق القديم، وفي مصر، والشرق الأوسط القديم، والشرق الأدنى، وصولا إلى الديانات في المرحلة الهلينستية في الغرب القديم، وهي المرحلة الممتدة من وفاة الإسكندر المقدوني، حتى بداية غزو روما لليونان، وانتهاء المرحلة اليونانية.
خزعل +إئيل نصٌ ملحمي، لكنه أيضا مُركّب فيللوجي، قد يكون له جذر «آرامي» لكنه كنسقٍ شعري، يتحوّل إلى «نحت» صوتي له دلالاته التي تُحيل إلى ذلك التعالق، بين ما هو بشري وما هو أسطوري، أو بين ما هو أرضي وما هو متعالٍ، وهذه الثنائية لا تُعنى بـ»الصراع» فقط، بل بثيمة الخلق، وما يعنيه من دوافع لملاحقة تلك الثيمة، عبر استحضار فكرة الخلود، والتطهير، وأحسب أن مَن يقرأ قصائد الماجدي في كتبه الشعرية المتعددة، سيجد علاقة ذلك واضحة في مجاله الشعري، وفي مجاله كباحث في أصول الأديان والأساطير، فهو مهووس باستدعاء التاريخ والأسطورة إلى نصوصه، مثلما هو مهووس بالبحث عن أصل فكرة أو ثيمة الخلق، لذا هو يمنح «المكان العراقي القديم» صفة متعالية، ليس بوصفه مكانا لأصل العالم حسب، بل لأنه ـ أيضا- مكان توليدي للمعرفة، ولاستحضار تحولات الوجود والخلق، فضلا عن كونه مكاناً إحالياً، يستغرقه بدلالة التسمية، وبفاعلية ما يصنعه من مجال استعاري، يواجه من خلاله وجوده وغربته وأحزانه، التي يجد في الشعر مجسّه «المقدس» لمواجهة متاهته، ولكتابة سيرته، وللتعرّف على الأثر الذي هو الحامل لروح النص، شعريا كان أم طقسياً، أم معرفياً.
الأثر ودلالته كنص، لا ينفصل عن الشعر في توصيفه النصوصي، إذ يعيش معهما الشاعر مغامرة «البطل الأسطوري» الذي يسكنه دائما، البطل الباحث عن الخلود، الذي يسعى إلى قهر فكرة «الموت» مثلما يستحضر معها مغامرة الكاتب/ الشاعر، وهي مغامرة مواجهة فادحة، يستحضر معها الطقوس والكشوفات التي يشتبك فيها المعرفي بالتأويلي، بوصفه اشتباكا طالما كان مثيراً، وحاضراً في مراحل مبكرة داخل مختبره الشعري..
الشاعر الذي يُفكِّر
انحياز الشاعر إلى تمثيل أفكاره، تجعله أكثر قصدية في أسطرة التعالق بين الشعر والفكر، وفي أن يكون الشعر لغةً متعالية، وهذا التعالي يضعه أمام مواجهة سرائر التاريخ ما قبل التدوين وما بعده، إذ يحوز الشاعر حدوس الكاشف، مثلما هو هاجسه الشعري في مواجهة تاريخ القصيدة العربية وتحولاتها العاصفة، لاسيما تاريخها الغنائي، بوصفه مهيمنة مركزية، سعى الماجدي إلى التمرد عليها، عبر استدعاء الأسطوري، والسحري.
هذه المواجهات هي جوهر تمرده وتجاوزه، ورهانه على تجاوز هوية «الشاعر» إلى تعاليات المُفكِّر، إذ يدفعه هذا التوصيف إلى البحث الأركيولوجي عن مجاورات نصية، تلك التي تجعل الشاعر أكثر هوساً بأفكاره، وبحدوسه، وبكشوفاته، التي وجد استنفارها في الشعر قبل الحفر، لكن تحوّل الشاعر إلى «حفّار» وإلى باحث عن الأثر، يعني انغماره في «لعبة المُفكِّر» الذي يجعل من الشعر لصيقاً باشتغالاته الأسطورية، وبالميثولوجيا وتاريخ الأديان، بوصفها اشتغالات تتقصى وجود الإنسان الذي يُفكّر، والذي يتجاوز عبرها التاريخ، والنمط، وليبدو وكأنه يؤدي وظائف فائقة، ليست بعيدة عن شيفرة الشعر، وفي اتجاه أن يكون هذا الشعر طقسا، ولذة، وسحرا، وترياقا، ونشيدا، وأحسب أن الإنسان القديم كان يعيش «اللذة الشعرية» عبر ما يصنعه، أو ما يكتشفه من موجودات وأدوات تبدأ من الحقل، والبيت والفأس والزي وصولا إلى النظام العبادي الذي يسوّغ علاقته بالوجود، ويجعله أكثر استغراقا فيه، وبما يُتيحه من طقسيات يتجوهر عبرها وعيه بالموجود.
كاتب عراقي