بما قل من المراجعة التأملية لمكونات المشهد الثقافي العربي، سيكون بوسع الملاحظ أن يتساءل عن دلالة تلك الثقة المبالغ فيها، التي تأنسها النخب التنويرية من ذواتها خلال مقاربتها لعلاقتها بالآخر. وهو على العموم تساؤل غير بريء، بالنظر للمفارقة القائمة بين ما يلقاه مفكروها من تجريح لاذع على الخطابات السائدة، خاصة منها المعتدة بمرجعياتها العقدية، ونرجسية خطاباتهم التي تبدو مشبعة بحمولة يقين متعال عن أي استفسار نقدي. وهي مفارقة تورطهم في تناقض صارخ، تنتفي معه فرص التحلي بموضوعية القول وعقلانيته. علما بأن إصرارهم على تقمص الذات العالمة المحيطة بكل صغيرة وكبيرة، يعتبر من بين الأسباب الرئيسية التي تحول بينهم وبين تقفي أثر البياضات البنيوية، التي تتخلل تطلع مجتمعاتهم إلى آفاقها المستقبلية. ذلك أن الإحاطة العملية والشاملة بكل العوامل المؤثرة في بناء رؤية حضارية للواقع، تظل في حكم الظن والمستحيل، لأن ما يظهر من هذه العوامل، ليس في الواقع سوى ذلك الجزء الذي حظي صدفة بنعمة اكتماله، كي يغدو تبعا لذلك موضوعا متاحا للمقاربة التحليلية والتناول التأويلي، فيما تظل بقية العوامل/العناصر محتفظة بتكتمها واحتجابها، في صيغة بياضات مفرغة من دلالاتها، بانتظار توافر الشروط الموضوعية التي تسمح لها باستعادة حقها في الظهور.
وفي اعتقادنا، أن المسؤولية المركزية المطروحة على عاتق الفكر النقدي ككل، هي تعقب هذه البياضات المتوزعة على جسد البنيات المجتمعية والثقافية، والمؤثرة سلبا على إمكانية صياغة خطاب متكامل من حيث بناؤه وتشكله. إذ سيكون من المستحيل تسطير حقائق دامغة حول ما لم تتضح بعد ملامحه. باعتبار أن تشكل بنية الشيء غالبا ما يتحقق على مراحل، تكون بدورها محكومة بمنطق التعارض والتناقض. والشيء نفسه بالنسبة لتمثل هذه البنية، التي تتم عبر حلقات متتالية من الفهم والاستيعاب، والمندرجة تباعا في مسار تأملي، قد يكون ذا منحى أفقي عمودي، كما قد يكون ذا منحى دائري أو حلزوني، انسجاما مع خصوصية البنيات المعنية. بمعنى أن الكفاية التأملية تستطيع بالكاد أن تلم بما هو معلن، ومفكر فيه سلفا. فيما تظل العناصر المنسية واللامفكر فيها، التي هي في طور التكوين والإنشاء، على هيئة بياضات تنتظر تكامل مقوماتها الكفيلة بالكشف عنها، أو حجبها عمدا، إلى أجل غير معلوم.
وفي اعتقادنا، أن الخطاب العربي ككل، بما فيه التنويري، مصاب بهوس امتلاك الرؤية الشمولية للأشياء، سواء على مستوى ما يصدره من أحكام، أو على مستوى ما يؤسسه من قناعات، حيث تستطيع العتمة أن تكرس حضورها بالاستفادة من آليات التنوير/التوصيل الحداثي. والمحصلة في نهاية المطاف، هي تعطيل مقومات اشتغال البدائل، بموازاة إسراف الذوات التنويرية في تضخيم ثقتها بملفوظها، وعزوفها عن تفقد ما يعتريه من بياض. وهو من وجهة نظرنا، مؤشر صارخ على ارتباك ما تراكمه من استنتاجات وتصورات. لأن أهم شرط موضوعي ينبغي أن تلتزم به الرؤية النقدية، هو إبقاؤها على مجال البحث والمساءلة مفتوحا، بما يسمح للبدائل بالاشتغال المتعدد الأبعاد، استجابة لحركية التحولات الفكرية، المواكبة للتحولات المجتمعية والتاريخية، حيث لا يمكن ضمن هذه الدينامية المزدوجة الحدين، الاستناد إلى وجهة نظر ثابتة وأحادية، تحتكر مهمة رصدها للوقائع ووضعها للأنساق، على غرار احتكارها لمنطق التأويل الإطلاقي، الذي يقطع الطريق على كل مبادرة مغايرة، تقترح هي أيضا صيغتها الخاصة بها في الرصد، والتأويل، والتركيب. وبالتالي، فإن القضايا المطروحة، تظل مراوحة مكانها تحت وطأة تعاقب مقولات القدامة والحداثة، حيث يتماهى طقس التعتيم مع طقس التنوير، مستحدثا بذلك حالة فصامية عز نظيرها. والحال أن الإطار العقلاني الذي يمكن أن يشتغل فيه الفعل التنويري، هو الذي لا يستبعد احتمال انحراف الخطابات التنويرية عن مساراتها، بوصفها خطابات مهيأة لأن تهتدي إلى أرض السؤال، قدرتها على السير في اتجاه الخطأ المتربص دائما بخطابات الرائحين والغادين، والمؤدي إلى زوال فكرة الإبدال المطلق، الصالح لكل الأمكنة والأزمنة.
ولعل مصدر هذا الخلل، هو القول بوحدة المنظومات التنويرية المتحكمة في تكوين الخطابات وبنيتها، كمنظومة حتمية انتماء شعوب الأرض كافة إلى الحداثة الكونية، التي لا تسمح بوجود الخصوصيات المنكفئة على ذاتها. وهو ادعاء يبرر تكريس هيمنة خطاب ثنائي البعدين، ومزدوج الحدين. إنه من جهة، مؤثث بما تيسر من الكليشيهات التنويرية، دون أن يخلو في الوقت ذاته من الإدانة المبدئية لواقع التخلف، الناتج عن الارتهان إلى تراث بائد، لا يعول عليه في إحداث أي إضافة نوعية محتملة. وهي الثنائية /الازدواجية التي يجد فيها المهتمون والمتهافتون على السواء، متعة لا تقاوم في تفريع الحجاج، بفعل استنادها /الازدواجية، على مبدأ المزايدة الخبيرة بألاعيب بسط الرأي المشوب بأضداده.
غير أن ما يفند الادعاءين معا، هو نهج التنافسية الموظف من قبل منطق الحداثة في إنجاز مهام تصنيفها وتقييمها للظواهر، وأيضا في برمجة مصائر وأقدار حضارات الشرق والغرب، الشمال والجنوب. وفي أتون هذه التنافسية الشرسة، ستجد النخب العربية المزهوة بخطاباتها التنويرية، محشورة في الهوامش المهملة والمحجمة من قبل التاريخ الكوني للأفكار، بعيدا عن أنوار الحداثة، ووعودها.
نخلص من هذا للقول، إلى أن التبني الفعلي لجوهر الحداثة، يعني أساسا الاقتناع التام بشراسة ما تلزمنا به قيمها من حروب هيمنية لا متكافئة، مموهة بحرير المنافسة، ما سيفضي تلقائيا إلى إقصاء خطاباتنا التنويرية من المشهد، بحمولتيها المتفائلة والمتشائمة في آن. وخير مثال على ذلك، مؤسساتنا الأكاديمية، المصنفة عن جدارة واستحقاق في خاتمة سلم الترتيب العالمي، رغم ما توحي به خطط عملها، المعبر عنها بشراكاتها الدولية، واندراجها في التوجه الكوني الذي تنتهجه الرؤية التحديثية للأفق المعرفي العام. والشيء نفسه ينطبق على أغلب المؤسسات التي تتكئ عليها أنظمتنا في تلميع صورتها المتآكلة. لكن، وضمن رؤية موضوعية مشروطة بتحفظاتها، لن يكون ممكنا تبخيس جدوى الحوار الحضاري، ولو في صورته اللامتكافئة. كما لن يكون ممكنا التنكر لملحاحية انتماء العالم العربي إلى المنظومات العالمية، التي تستدعي من شعوبه تأكيد قابليتها للتفاعل الإيجابي والعقلاني مع الإشكالات الكونية، بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية. تفاعل، ينبغي أن يتحقق ضمن الاستحضار العقلاني والمنطقي، للتنافسية الشرسة التي أشرنا إليها، والذي قد يساهم الوعي فيه، في تصحيح المسار الفكري والإبداعي للخطاب العربي.
خارج هذا التصور، سيظل الفكر العربي مراوحا مكانه، معزولا عن أي أثر معرفي يخص الإشكاليات الفعلية، التي ما انفكت تحاصر جسده وروحه بلهب أسئلتها. وخارج هذا التصور أيضا، سيكتفي الفكر ذاته صاغرا، بتأمين إقامات جديدة للمفاهيم الغربية، عبر احتضانها اللامشروط، وإكرام وفادتها على الطريقة الحاتمية، كي تضمن استمراريتها وانتشارها خارج مداراتها التي أمست مكتظة بطوابير متجددة من المناهج والمفاهيم والأنساق. ذلك أن المفاهيم الغربية ستكون حتما دون هذه الإقامات، عرضة للاختناق في فضاءاتها المركزية الآهلة بجديد أسواقها الثقافية، ووفرة منتوجاتها المعرفية التي تتعرض فيها نسبة كبيرة إلى التلف والضياع، نتيجة معاناتها من شراسة التنافسية في مجال التسويق المفاهيمي، وإنتاجه. كما أن احتضاننا الحاتمي لكل هذه المنتوجات التنويرية، بعد انتهاء صلاحيتها، يجعل من دوائرنا المعرفية محض متاحف عشوائية، يستعيد فيها الزائر الأجنبي، وبغير قليل من الدهشة والحيرة، أمجاد خطابات تنويرية، يراها الآن أمامه وهي تخبط خبط عشواء، بعد أن أمست معصوبة العينين، إلى أجل غير مسمى.
شاعر وكاتب مغربي