سبقت الإعلان عن خطاب الرئيس عمر حسن البشير توقعات كثيرة بأن النظام يعتزم إجراء تغييرات أساسية في بنيته، خاصة بعد مغادرة شخصيات مهمة لمناصبها، مثل نائب رئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه والدكتور نافع علي نافع والدكتور غازي صلاح الدين العتباني وغيرهم، وبنيت هذه التوقعات على خلفية الحراك السياسي الحادث في العالم العربي، والذي يعتقد الكثيرون أنه أصبح قريبا من السودان، وذلك ما جعل النظام يستبق الأحداث بتوجيه الواقع السياسي في البلاد الوجهة التي يريدها.
ويلاحظ في الوقت ذاته أن الكثيرين شككوا في الدعوة التي وجهها الرئيس عمر البشير لرموز المعارضة لحضور خطابه وطالبوا بأن لا يلبي هؤلاء دعوته.
ومهما يكن من أمر فإن الكثيرين حضروا هذا الخطاب ومنهم السيد الإمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة، والشيخ حسن الترابي زعيم حزب ‘المؤتمر الشعبي’، وذلك ما يجعلنا نتوقف لنرى ما اشتمل عليه خطاب الرئيس عمر حسن البشير.
في البداية أكد الرئيس البشير أن حزبه، ويعني به حزب ‘المؤتمر الوطني’ مصمم على إحداث الوفاق بين عناصر الشعب السوداني المختلفة، وبدأ الكثيرون يتطلعون إلى المقصود بالوفاق وتساءلوا، هل هو مجرد دعم للنظام بعناصر المعارضة أم أن المقصود هو التخلي عن الصيغة القائمة وإيجاد بديل تشارك فيه كل عناصر الوطن؟
ويبدو أن الخطاب لم يرض الكثيرين ومنهم الشيخ حسن الترابي الذي اعتبر الخطاب خطاب تحايا وليس خطاب قضايا.
أما الرئيس البشير، فقال إن علاقات السودان في المحيط العربي والأفريقي والعالمي تفرض عليه إعادة النظر في وضعه الداخلي وعدم الاستسلام للأوهام، وقال البشير إن ذلك يدعو إلى أن يرتفع الحس الوطني فوق الحس الحزبي، ويعني ذلك بكل تأكيد أن تتوقف المعارضة عن النظر إلى الأمور من زاويتها الحزبية الضيقة، والتوجه نحو النظرة الوطنية الشاملة والتي تعني عنده ـ بكل تأكيد ـ ما يمثله النظام من وجهة نظر الحكومة. وقال الرئيس البشير إنه يريد أن يبدأ مرحلة جديدة من الحوار الوطني تشمل أيضا حاملي السلاح في المناطق المتمردة . كما قال إنه لا يمكن تحقيق الوثبة الاقتصادية دون تحقيق السلام والوفاق الوطني، وقال البشير إن الوثبة السياسية تتحقق بمزيد من الحريات والحكم الرشيد وعدم الاصطفاف ضد الوطن من خلال واجهة المعارضة.
وكما يبدو فإن الخطاب لم يحفل بما كان متوقعا، وذلك ما جعل الشيخ الترابي يقول عبارته السابقة بأن الخطاب كان خطاب تحايا أكثر منه خطاب قضايا، وقال الشيخ الترابي إن لغة الخطاب كانت لغة عامة ولم تنزل إلى مستوى حل القضايا الماثلة في السودان، وقال إن الخطاب أغفل الحديث عن بسط الحريات العامة.
وعلى الرغم من ذلك فلم يقفل الترابي الباب أمام دعوة الحوار قائلا إن حزبه على استعداد لأن يحاور من يريد محاورته. وقال الترابي إن الكلام في الصحف عن التوقعات كان كثيرا ولكن البشير لم ينزل إلى مستوى الإجابة على تلك التوقعات.
أما المعارض البارز علي محمود حسنين فقد وصف الخطاب بأنه لم يأت بجديد، وهو يأتي في وقت تكسرت فيه أنياب النظام وتفككت وحدته وأصبح البعض فيه يتربص بالبعض الآخر، ودعا علي محمود حسنين كل معارضي النظام أن يتوحدوا لإسقاطه، وليس إلى التعاون معه، وتلك هي مهمة الجبهة الوطنية العريضة بحسب وجهة نظره.
ولكن هذا الخط المتطرف لا يلقى هوى عند الإمام الصادق المهدي الذي يرفض إسقاط النظام بالقوة، ويقول إن مثل هذا العمل قد يأتي بسلطة دكتاتورية جديدة ،وهو وإن كان يؤمن بزوال النظام فإنه يريد أن يكون ذلك بالوسائل السلمية وليس بالعنف، ويريد الصادق المهدي للسودان أن يستفيد من تجربة جنوب أفريقيا وذلك بأن يجلس الجميع حول مائدة مستديرة يرسمون فيها خريطة طريق للتحول المطلوب في البلاد، ويرى أن تلك هي أفضل طريقة لإحداث التغيير السلمي في السودان .
وقال السيد الصادق المهدي تعليقا على تكريم النظام له خلال الاحتفال بأعياد الاستقلال، إن ذلك التكريم لم يغير موقفه من النظام.
وبعيدا عن المواقف السياسية الداخلية، فيبدو أن الموقف في السودان بدأ يستقطب اهتمامات دولية واسعة، وظهر ذلك من خلال تشديد السفارة الأمريكية في الخرطوم على ضرورة تفعيل الحوار السياسي في السودان وفتح قنوات بين الحكومة والمعارضة، وقال القائم بأعمال السفارة الأمريكية في الخرطوم ‘جوزيف استافورد’ إن حكومة بلاده تدعم الحوار بين الحكومة السودانية والقوى السياسية المختلفة في البلاد، ونفى ‘استافورد’ علمه بأي تغييرات يعتزم الرئيس البشِير إجراءها في السودان.
ومن رأي رئيس المؤتمر الوطني إبراهيم غندور فإن التكهنات باستقالة الرئيٍس ‘عمر البشير’ غير واردة، ووصف غندور مثل هذه التوهمات بأنها نوع من الخيال المسرحي الخصب.
أما السيد مبارك الفاضل المهدي، فأصدر بيانا صحافيا أكد فيه على أن نظام الإنقاذ هو الذي أدى إلى انفصال جنوب السودان، وكذلك اتساع الحروب الأهلية في البلاد، وتبديد مواردها الاقتصادية في الحروب وأمن النظام، كما تسبب في تدمير القطاع الزراعي والصناعي وكذلك أدى إلى ازدياد مستوى الفقر في البلاد.والتضخم وانهيار الخدمات، ويقول السيد مبارك الفاضل أن لا مخرج من هذا الواقع إلا بإنهاء سيطرة النظام على سائر المقدرات وفتح المجال أمام إدارة قومية تشارك فيها سائر المجالات في البلاد. وقال المهدي إن الحل في البلاد لم يعد يحتمل المراوغة لصرف الأنظار عن الضائقة المعيشية، وأكد أن المعارضة قدمت كثيرا من التنازلات ولكن تلك التنازلات لم تؤد إلى النتيجة المرجوة، ويدعو المهدي إلى تفكيك دولة الحزب وإقامة دولة الوطن، والسبيل إلى ذلك هو قيام نظام حكم انتقالي يمهد لعملية الحكم الشامل في البلاد، ويقول السيد مبارك إن الدعوة للمشاركة في لجنة الدستور ليس هو الحل لمشكلات السودان، لأن المشكلة ليست هي مشكلة دستورية بل مشكلة تتعلق بسيطرة حزب جماعة واحدة على البلاد.
ولا نريد أن نطيل الحديث بالوقوف عند الآراء الناقدة للنظام السياسي في السودان والداعية إلى إحداث التغيير، ذلك أن الدوافع إلى تلك الآراء لم تكن مجرد الرغبة في التغيير بل شعور الكثيرين بأن السيطرة على البلاد لم تعد محكمة بعد أن فتحت النوافذ أمام مواطني كثير من الدول المجاورة إلى الدخول إلى السودان في وقت بدأ فيه كثير من المواطنين يعانون من شظف العيش، ولا يعرف أحد لماذا يسيطر نظام الإنقاذ حتى الآن على الحكم، ذلك أن الفكرة الأساسية التي جاء إبها نظام الإنقاذ تركزت في إقامة نظام إسلامي في البلاد، ولكن هاهي الآن قد مرت السنوات لأكثر من عقدين دون أن يرى الناس معالم هذا النظام الإسلامي الذي تريد أن تنشئه الحكومة، وبدلا من ذلك فهم يرون نهبا ممنهجا لمقدرات البلاد، وتراخيا في سائر المجالات، مع مطالبة عريضة بضرورة أن يحدث التغيير .
والسؤال المهم هو لماذا لا يحدث التغيير إذا كانت تلك إرادة الناس ؟ بالطبع لا أحد يوافق على أن يكون التغيير هو مجرد استيعاب لبعض عناصر المعارضة في عجلة الحكم لأن التغيير المطلوب هو أن يكون الناس قادرين على المشاركة في إدارة بلادهم من خلال نظام ديمقراطي يحفظ للجميع حقوقهم المشروعة .
‘ كاتب من السودان