في الليالي التي كنت أنام فيها في دار جدي، وهي قليلة، كنت أستيقظ باكرا على صوته وهو يصلي، كنت أسترق السمع لما يقول كان يدعو لبناته ولولده الوحيد و»للعجوز» جدتي كما يسميها، وكنت أسمع في تمتماته اسم الرئيس بورقيبة الذي كان رئيسنا في ذلك الوقت، أغلب الظن أنه كان يدعو له بالخير، لأني لم أسمع جدي يدعو على أحد إلا على سبيل المزاح. هل كان ذلك الدعاء ضربا من «خطاب العبودية الطوعية»؟
هذا عنوان كتاب ألفه في القرن السادس عشر شاب لم يتجاوز العقدين من عمره هو إيتيان دو لا بويسي (1530-1563) Étienne de La Boétie فكرة الكتاب أن العبودية لا يمكن أن تكون قسرية في أغلب أحوالها، بل تكون طوعية إذ لا يمكن أن تجبر فئةٌ قليلة جماعةً كثيرة على الانصياع لها إلا إذا كانت لديها رغبة منها الخضوع لها، وبمرور الوقت يصبح هذا الخضوع عادة وسنة مُعادة.
ما يعنينا ههنا ليست الفكرة في ذاتها، فهي ليست طريفة مثلما يعتقد، ولكن ما يعنينا هو أن ندرس أشكال هذه المطواعية في عينات من اللغة والخطاب القديمين. نزعم أن أقدم أشكال العبودية الطوعية في ثقافتنا العربية يمكن أن نجده في الدعاء لأولى الأمر، سواء اضطلعت به المؤسسات الدينية الرسمية في المناسبات، أم أنجزه المحكومون من تلقاء أنفسهم بأشكال مختلفة. يكون الغرض من الدعاء طلب النجاح والفلاح وطول العمر للملك أو للخليفة أو للوزير أو لغيرهم.
الدعاء ليس شكلا خطابيا إسلاميا كما يعتقد، إذ نجد في الشعر الجاهلي أصنافا منه ففي قصيدة النابغة الذبياني، التي يعتذر فيها للنعمان بن المنذر، على سبيل المثال يقول الشاعر: (أتاني أبيت اللعن أنك لمتني.. وتلك التي تستك منها المسامع). يقول الشراح إن عبارة «أبيت اللعن» هي جملة دعائية، أي: أبيت أن تأتي من الأخلاق المذمومة ما تُلعن عليه. لا تعنينا المناسبة التي قيل فيها النص من أنه اعتذار من ملك، ما يعنينا هو كيف أن الدعاء يصنع خطاب العبودية الطوعي. فهذا الدعاء الذي عرفته العرب قديما وضمر استعماله حديثا، يتأسس على حقيقة تمجيدية عامة مفادها، أن الملك هو من أصحاب الأخلاق السوية، وأنه لا يأتيه الخطأ من بين يديه ولا من خلفه وأنه رجل تعالى على أن يلعن بما تلعن به العامة، وأنه إن لام الشاعرَ فليس العيب فيه وفي ملامته، بل أصل العيب فيمن وقع عليه اللوم. يعني أيضا أن الذنب أصل في الناس، وسمو الأخلاق أصل في الملوك.
من الصعب أن نفهم الدعاء في الشعر الجاهلي ونحن لا نستحضر مفهومه في الثقافة الإسلامية وفي البلاغة العربية. الدعاء هو أحد أشكال عمل لغوي خطاطي يمكن أن نسميه الطلب، وفيه نجد الطلب والأمر (والنهي) والدعاء. وجهة الدعاء وعلى النقيض من الأمر أن تكون من أدنى هو البشر إلى الأعلى المتعالي وهو، الله. لا يدعوا المسلمون غير الله، لأنه هو الوحيد المستجيب وإن لم يكن الوحيد المعني بالخطاب. لكن تغيب في بيت النابغة الجاهلي هذه الوجهة التي يطلب منها الشاعر أن يكون الملك غير ذي لعن. لذلك يمكن أن نحمل الدعاء على الجعلية (جعلت ممن يأبون اللعن) والجعلية هي في هذا المعنى فعل تحويل تجريه سلطة قاهرة. معنى الجعلية هو معنى يتجاذبه الإنشاء والإخبار، فكونه إنشائيا يعني أنه قابل للتحقق وليس متحققا فعلا (لن يلعن بعد الدعاء)، ومعنى كونه خبريا أنه متحقق فعلا ويراد له الدوام: هو يأبى اللعن حاضرا وسيكون كذلك أبداً.
ينبغي أن يكون اللعن في هذا المعنى خطاب الناس في ما بينهم سرا، يلعنون به من حكم فظلم، ولذلك ينبغي أن نفهم «أبيت اللعن» في هذا السياق أنك حكمت فعدلت فما ظلمت، ولذلك لا داعي لأن تلعن بأفعالك.
اللعن فعل ثنائي الأطراف طرفاه اللاعن والملعون ويعتقد المعجميون العرب وبتأثير من النص الديني، أن اللاعنين هما طائفتا الإنس والجن، فهاتان الطائفتان من الكائنات يمكن أن تصدرا فعل اللعن. هم من يذكرون ملعونيهم بأقذع النعوت التي من شأنها أن تبعدهم عن الأخلاق الفاضلة، لأن معنى اللعن في اللغة الإبعاد. يمكن لمن ساس الناس وأخطأ أن يكون ملعونا أو لعينا واللعين في لسان العرب «الذي يلعنه كل أحد» (ل.ع.13/388). لكن علينا أن نقارن بين الدعاء بالفضل والدعاء باللعنة. اللعنة في أصل اللغة هي الابتعاد والنفي، ولذلك عد الشيطان لعينا لأنه طرد من السماء، ويمكن أن يكون اللعن نقيضا للدعاء له، ففي اللسان اللعنة الدعاء عليه (السابق).
ينبغي أن يكون اللعن في هذا المعنى خطاب الناس في ما بينهم سرا، يلعنون به من حكم فظلم، ولذلك ينبغي أن نفهم «أبيت اللعن» في هذا السياق أنك حكمت فعدلت فما ظلمت، ولذلك لا داعي لأن تلعن بأفعالك.
تفكير السائس في المسوس تفكير هواجس وسوء ظن؛ وهذا ما نجده في بعض الآثار العربية القديمة فنحن نقرأ في كتاب «الإمتاع والمؤانسة» كيف سأل الوزير أبا حيان التوحيدي عما يقوله الناس فيه فقال: «سمعت بباب الطاق قوما يقولون اجتمع الناس اليوم على الشط، فلما نزل الوزير ليركب صاحوا وضجوا وذكروا غلاء القوت وعوز الطعام وتعذر الكسب وغلبة الفقر، وأنه أجابهم بجواب مرّ مع قُطوب الوجه وإظهار التبرم». رد كهذا هو الذي مثل يولد اللعن لدى العامة، لأنها وهي الجائعة تقمعها العبارة وتهددها الإشارة. غالبا ما نقرأ رد أبي حيان على أنه جرأة في وجه سياسي والحق أنه خطاب خانع يضفي مشروعية على رد فعل الوزير بأمرين: رد الأزمة إلى أمر أعلى (سلطة الخليفة أو جبر الطبقة) والصمت على رد فعل العامة على رد الوزير. في عبارة « ذكروا غلاء القوت» هذا كان الفعل «ذكروا» فعلا محايدا يجعل الناس وهي تشكو تصف ولا تظهر الطرف الوحيد الذي له سلطة رد الفعل هو الوزير، فقد كان غاضبا من مجرد وصف الأوضاع ولو استطاع التوحيدي ذكر رد الفعل الحقيقي لكان مرتبطا باللعن أو الدعاء عليه، ولكان الوزير في الحكاية لعينا. من معاني اللعين الطريفة أنها تسمية تطلق على «ما يُتخذ في المزارع كهيئة الرجل أو الخيال تذعر به السباع والطيور» (لسان العرب، 13/ 389) لنا أن نتساءل عن العلاقة بين اللعن الذي هو معاقبة وإبعاد ودعاء عليه، وهذه الهيئات التي ما تزال إلى يومنا تنصب في المزارع لكي تبعد الطيور العابثة بالمحصول؟
في هذا الخيال الذي يتخذ هيئة الرجل للتخويف، ما يدل على الإبعاد وهي وظيفة أساسية له في المزارع والحقول. الطيور التي تفزع من هذا الخيال لا تميز بين خيال امرأة وخيال رجل. ومن صنع التمثال فكر في جنس السلطة وربطها كالعادة بجنس من يمارسها في الواقع وهو الرجل. لا شك في أن هيئة الرجل الذي يفزع الطير سيلبسونها إذ ينصبونها في حقولهم لباس ذلك العصر البالي، فكأنه في هيئته المزرية تلك لعين بمعنى آخر، لأنه لم يُكس الكُسَى الجيدة، ولم يسكن المسكن الجيد، ولم يطعم الطعام الجيد، هو يمنع مع الطيور من الأكل ولا يأكل هو بنفسه هو محروم ويحرم غيره، وأي درجة من درجات الحرمان واللعن أقوى من أن تمنع غيرك من الطعام وتُمنع منه أنت أيضا. اللعين في هذا الشكل صورة عامية من صور تمثيل السلطة المخيفة وتنصيبها؛ سلطة ليس لها إلا أن تنتصب وتخيف وتحرس وتبعد ولا تأخذ شيئا ويسميها من نصبها «لعينا».
«أبيت اللعن» ينبغي أن تفهم في هذا السياق العام من اللعن والإبعاد والطرد والانتقام والغضب والانقلاب؛ أبيت اللعن نوع من العبارات التي تقدم للملوك تزلفا وعبودية مجانية، ولكنها أيضا تذكرهم بمعنى اللعن الذي تخافه كل نفس سياسية لا تريد أن تذوق الإبعاد عن السلطة أو تظل واقفة كلعين الحقول تزري به الرياح وتلفحه الشموس حتى يذهب أشلاء ولا من مغيث.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية