الجولة الجديدة من مفاوضات فيينا بشأن إحياء اتفاق 2015 ستكون بمثابة التمهيد لبدء المفاوضات الحقيقية، التي لن تتحقق إلا بانضمام الولايات المتحدة إلى المفاوضات المباشرة، وهذا هو قرار إيراني. وعلى الرغم من أن الخارجية الأمريكية تستجدي العودة إلى طاولة المفاوضات المباشرة، على اعتبار أن ذلك يمثل شرطا من شروط “كفاءة ونجاح المفاوضات”، فإن إيران رفضت التفاوض مع الوفد الأمريكي إلا بعد أن تقدم الولايات المتحدة عرضا مقبولا. كما حددت إيران شروطها لـ”مقبولية” العرض، أهمها “رفع كل العقوبات غير القانونية” التي فرضها الرئيس السابق ترامب، بضمانات ونظام للتدقيق.
ومع بدء الجولة التاسعة من المفاوضات، تبدو في الأفق ملامح تحول في الخطاب السياسي الإيراني عن شرط “الاتفاق المستدام” إلى “الاتفاق الجيد المضمون” وإعادة التأكيد على شرط “رفع العقوبات”، كخط أحمر في المفاوضات. هذا التحول يقرِّب إيران من الموقف الأمريكي، الذي أصبح يستبعد التوصل إلى اتفاق طويل المدى في الوقت الحاضر، ويسعى إلى اتفاق “انتقالي” بشروط أخف، يهدف فقط إلى إطالة “مدة الاختراق” اللازمة لإنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة 90%، وهي النسبة الكافية لإنتاج سلاح نووي.
تحول في الموقفين الإيراني والأمريكي، بعيدا عن “اتفاق شامل مستدام”، وأقرب إلى “اتفاق انتقالي”، ما أثار قلقا شديدا في أوساط الجمهوريين داخل الكونغرس
فريق العمل الاستراتيجي الأمريكي، الذي يضم وزير الخارجية بلينكن ونائبته للشؤون السياسية ويندي شيرمان، ومستشار الأمن القومي سوليفان، ومدير المخابرات المركزية وليام بيرنز، إضافة إلى رئيس وفد المفاوضات روبرت مالي، توصل إلى قناعة بأن العودة الكاملة لاتفاق 2015 غير ممكنة، وأن دمج قضايا برنامج الصواريخ الإيراني وأنشطة إيران وحلفائها في المنطقة هو فتيل سينسف المفاوضات، ومن ثم تم إسقاطها من جدول الأعمال. نحن إذن أمام تحول في الموقفين الإيراني والأمريكي، بعيدا عن “اتفاق شامل مستدام”، وأقرب إلى “اتفاق انتقالي”، وهو ما أثار قلقا شديدا في أوساط الجمهوريين داخل الكونغرس، وأدي إلى استقالة ريتشارد نيفيو نائب رئيس الوفد المفاوضات الأمريكي، كما أثار غضبا شديدا في تل أبيب، انتقلت أصداؤه إلى بعض العواصم العربية، وهو غضب تسعى إسرائيل إلى استخدامه في “خطة أمنية” لتعزيز دورها في الخليج. الرئيس الأمريكي بايدن اهتم شخصيا بمحاولة احتواء غضب إسرائيل، فتحدث إلى نفتالي بينيت، ليؤكد له الشراكة “الحميمة والتاريخية” بين الولايات المتحدة وإسرائيل، و”التهديد الذي تشكله إيران ووكلاؤها للمنطقة”، مؤكدا التزامه بتوسيع “الاستقرار والشراكات عبر منطقة الشرق الأوسط”، مثلما يتجلى في “اتفاقيات إبراهيم”، وتعهد بتجديد مساعدة واشنطن لبرنامج القبة الحديدية، مع التأكيد على حرية إسرائيل في اتخاذ القرارات التي تراها. وقبل ذلك تواصلت واشنطن مع عواصم الدول الحليفة في الخليج، وكذلك مع القاهرة وعمان بشأن العرض الجديد المقدم إلى إيران.
سذاجة الدبلوماسية الأمريكية
من السذاجة وضع توقعات لمفاوضات لم تبدأ بعد، وعلى الرغم من تقارب الموقفين الإيراني والأمريكي أخيرا، فإن أصداء العرض الأمريكي في طهران ما تزال سلبية، وتتفق التصريحات الصادرة عن علي شمخاني سكرتير مجلس الأمن القومي، وحسين أمير عبد اللهيان وزير الخارجية، وعلي باقري كني رئيس وفد المفاوضات، وكذلك عن رئاسة لجنة الأمن القومي والشؤون الخارجية في مجلس الشورى، على أن العرض الأمريكي غير متوازن. هذا التقييم وإن كان لا يرفض العرض، إلا أنه لا يعلن قبوله، وإنما يدعوه إلى الدخول في دهاليز المساومات من أجل تصحيحه، ليصبح “متوازنا” بالمعايير الإيرانية. نقطة البداية الحقيقية في المفاوضات الفعلية حسب المفهوم الإيراني هي “رفع العقوبات”. أما حسب المفهوم الأمريكي الجديد فهي إلزام إيران بتخفيض مستوى برنامجها النووي، بما يحقق تأخير وصول إيران إلى “نقطة الاختراق” لأبعد وقت ممكن، وهو ما يقدره الخبراء الآن بحوالي 6 أشهر، في حال قبول العرض الأمريكي، وليس 12 شهرا كما كان يستهدف الاتفاق الأصلي لعام 2015. ويتطلب إطالة أمد وصول إيران إلى نقطة الاختراق تجميد تخصيب اليورانيوم عند نسبة 60%، ووقف إنتاج قضبان اليورانيوم الممعدن، ووقف تشغيل أجهزة الطرد المركزي المتقدمة والتخلص منها، وإعادة تصميم منشأة “أراك” المتخصصة في إنتاج الماء الثقيل اللازم لتشغيل محطة بوشهر النووية، ووقف الأنشطة المحظورة في منشأة فوردو، وإخضاع كل المنشآت النووية الإيرانية لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وكان نائب رئيس الوفد الأمريكي المستقيل ريتشارد نيفيو يعتقد أن الوفد الأمريكي أخطأ بعدم الانسحاب من المفاوضات بمجرد تشغيل أجهزة الطرد المركزي IR-6. هذا يعني أن المفاوضات لم تصطدم بعد بحقائق الموقف الإيراني في ما يتعلق بكمية ونوعية التنازلات النووية، التي يمكن تقديمها في مقابل رفع العقوبات الاقتصادية، وما إذا كانت إيران ستقبل برفع العقوبات “جزئيا” وليس كليا، علما بأن الاستثناءات المعلنة غير كافية، وبعيدة عن الحد الأدنى الذي يمكن أن تقبل به طهران. ومن السذاجة افتراض إمكان التوصل إلى اتفاق في مدى زمني محدد لمفاوضات لم تبدأ بعد. وقد تحركت الدبلوماسية الأمريكية بسرعة منذ بداية الشهر الحالي، فعرضت واشنطن على حلفائها في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن رؤية تقضي بأن “التوصل إلى اتفاق لتجميد البرنامج النووي الإيراني هو أفضل الحلول الممكنة”، بما يمنح واشنطن وحلفاءها فرصة لشراء الوقت اللازم للتوصل إلى اتفاق طويل المدى، من دون أن ينطوي ذلك على المخاطرة بترك إيران تمضي قدما في برنامجها النووي، حيث إنها الآن أصبحت على بُعد أسابيع من الوصول إلى نقطة “الاختراق النووي”، مع التذكير بأن أجل اتفاق 2015 ينتهي في عام 2030، وهو ما يتطلب إجراءات لبناء الثقة استعدادا لاتفاق جديد يحل محل الاتفاق السابق. التسريبات التي أتاحتها الدبلوماسية الأمريكية عن العرض الجديد إلى صحيفة “وول ستريت جورنال” في 3 من الشهر الحالي، ثم تناولتها بالتعليق والتحليل الصحف الرئيسية، يبدو أنها كانت بهدف كسب الرأي العام الأمريكي، في مواجهة حملة مضادة تقودها “أيباك” و”المؤتمر اليهودي العالمي” ومنظمات أخرى مؤيدة لسياسة الحكومة الإسرائيلية مثل، “رابطة الدفاع عن الديمقراطيات”، وهي منظمات لا ترى بديلا في التعامل مع إيران سوى تدمير البرنامج النووي الإيراني بأكمله، سواء بالدبلوماسية أو بالحرب، وهو ما يتفق مع وجهة نظر تل أبيب.
ملامح العرض الأمريكي
طبقا لوثيقة أرسلتها وزارة الخارجية الأمريكية إلى الكونغرس بشأن جولة المفاوضات الجديدة، فإن العرض يهدف لتسهيل المحادثات للمساعدة على التوصل إلى عودة متبادلة إلى الاتفاق النووي الأصلي، وكذلك لخدمة مصالح الولايات المتحدة في “منع الانتشار النووي”. ويتضمن العرض تجميد تخصيب اليورانيوم، وإعادة تصميم مفاعل أراك المتخصص في إنتاج الماء الثقيل لمحطة بوشهر النووية لإنتاج الكهرباء، وتعديل نشاط محطة فوردو، وإعادة تنظيم وتوصيف برامج الإعداد والتدريب في الأنشطة النووية المدنية. وفي مقابل ذلك تحصل الشركات الأوروبية والصينية والروسية، التي تعمل في أنشطة البرنامج النووي السلمية في إيران على استثناء من العقوبات.
موقف إيران
تتمسك طهران بخطاب دبلوماسي هادئ وذكي، بعيد عن الطنطنة ودق الطبول، مع الالتزام بسلوك عملي يعزز موقف المفاوض الإيراني. وفي هذا السياق فإن توجيهات المرشد الأعلى للثورة الإيرانية تركز على أهمية بناء علاقات إقليمية مثمرة مع دول الجوار، خصوصا روسيا وتركيا والهند والدول الحليفة، وعلى رأسها الصين، من أجل تخفيف تأثير العقوبات على الوضع الاقتصادي. هذه التوجيهات تمثل أساس نزعة إيران إلى عدم استعجال التوصل إلى اتفاق نووي بأي ثمن. وتحاول حكومة ابراهيم رئيسي إدارة الاقتصاد الآن على أساس أن الاتفاق يمكن ألا يحدث قريبا، وأن العقوبات الأمريكية يمكن أن تستمر. وتتطلب العودة إلى الاتفاق النووي من وجهة النظر الإيرانية فك تجميد الأرصدة المالية المستحقة لإيران الخارج، وإنهاء العقوبات، فعليا وليس على الورق، على التجارة والتمويل، خصوصا في قطاع النفط والغاز، وحرية إيران في الوصول إلى الأسواق الخارجية. ومن الملاحظ أن الاستثناءات من العقوبات الواردة في العرض الأمريكي لا تتضمن أي إغراءات لطهران، وهي أقل من الاستثناءات التي كان ترامب قد منحها لعدد من الدول منها كوريا الجنوبية والهند والصين واليابان وإيطاليا وتايوان وتركيا، وسمح لها بالتعامل مع طهران من دون الخضوع للعقوبات. إن الطريق إلى أي اتفاق بين إيران والولايات المتحدة يجب أن يمر عبر ثلاث علامات، الأولى تقديم عرض مقبول لإيران بخصوص رفع العقوبات، الثانية قبول إيران بانضمام الولايات المتحدة للمفاوضات المباشرة، الثالثة الاتفاق على شروط عودة الصلاحيات الكاملة للوكالة الدولية للطاقة الذرية في التفتيش على المنشآت والأنشطة النووية الإيرانية. قبل ذلك فإن الحديث عن قرب التوصل إلى اتفاق، أو أن الوقت ينفذ، هو نوع من السذاجة الدبلوماسية.
*كاتب مصري
You distorted USA position