خطر السياسة: لماذا تصير القضايا العامة «مسألة شخصية»؟

أدت الأحداث الأخيرة في فلسطين المحتلة، وما رافقها من مجازر إسرائيلية دموية، إلى تصاعد التوتر في جدالات الحيز العام في دول العالم العربي، التي لا ينقصها الاحتقان بالأصل. إذ تزايدت الاتهامات، بالتخاذل والخيانة والمزاودة، وبات كل وجهة نظر أو أسلوب تعبير محفوفاً بالمخاطر، ومودياً بصاحبه إلى عواقب، قد تكون صعبة، مثل الوصم والتشهير والمقاطعة.
ربما كان هذا متوقعاً في زمن الحروب والاضطرابات الاجتماعية الكبرى، وقد شهدته الدول نفسها إبان ما يعرف بـ«الربيع العربي» حين نُشرت «قوائم عار» لشخصيات عامة، اعتُبرت مؤيدة للأنظمة القائمة، أو متواطئة معها؛ وهو يشير إلى مدى ارتباط الأحداث السياسية بالحياة اليومية للبشر المنتمين للمنطقة، حتى لو وقعت تلك الأحداث في مكان بعيد نسبياً، فقد يؤدي حدث يجري على الأراضي الفلسطينية إلى تغيرات كبيرة في حياة فرد، يعيش في مصر أو الجزائر أو حتى أوروبا.
هذا يعني أن السياسة تؤثر أيضاً في العلاقات الشخصية، إذ يتصاعد الغضب والشعور بالخذلان والألم الذاتي، تجاه مواقف الآخرين من القضايا العامة، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى قطع علاقات، كانت مترسّخة، وإعادة اكتشاف الأفراد لـ»حقيقة» أصدقائهم وأحبتهم. هنالك تفسير تقليدي يعيد سبب ذلك إلى أن «العرب» لم يتربّوا في ثقافة تعلّمهم تقبّل الآخر، والرأي المخالف، إلا أن هذا القول لا يراعي كثيراً من العوامل، ومنها الآثار الصعبة، والمادية، المترتبة على كل موقف سياسي واجتماعي في العالم العربي، التي تصل، في بعض الأحيان، إلى القتل بناء على الموقف، أو حتى الهوية. ليس «الرأي» ترفاً في بلداننا، والنزاعات الاجتماعية لا تحدث في سياق مناقشات فكرية، ضمن مؤسسات حيّز عام ديمقراطي مترسّخ. بالطبع لن يكون المرء سعيداً عندما يسمع آراء يعتبرها مساهمة في ترسيخ أوضاع اجتماعية وثقافية يرفضها، ويرى أنها تؤثّر في حياته ومستقبله؛ فما بالك إن سمع من يبرر مجارز أو اضطهاداً منظّماً بحق فئة معينة من البشر، قد يكون منتمياً إليها، أو تربطه بأفرادها علاقات جيرة ومحبّة، أو حتى يشعر تجاهها ببديهيات التضامن الإنساني، وبالتالي فليس لـ»حرية الرأي» هنا معيار مُتفق عليه، وقد تكون مقدّمة لأحداث رهيبة، أو تذكيراً بها. فهل الجدل والتواصل مستحيل في بلدان وثقافات تشهد كل تلك الصراعات الدموية؟ وكيف صارت السياسة والقضايا العامة خطيرة علينا لهذه الدرجة؟

البيولوجية المفرطة

أثار إبراهيم الأمين رئيس تحرير جريدة «الأخبار» اللبنانية، كثيراً من اللغط والغضب، في حديثه لقناة «الجديد» عندما قال إن غزة ستعوّض شهداءها بسرعة، لإن هنالك حالياً خمسة آلاف امرأة غزاوية حامل. بالتأكيد تحمل هذه التصريحات نظرة دونية للنساء، ولحياة البشر عموماً، الذين يبدو أنهم قابلون للاستبدال والتعويض ببساطة، حسب منظور الأمين. إلا أن هذا القول أيضاً يشير إلى ثقافة سياسية كاملة، لم يبتكرها الصحافي اللبناني، ولا تعبّر عن شخصه فقط، بل حاضرة في كل نزاع اجتماعي في الدول العربية، وهي إحالة السياسة ليس فقط إلى المستوى الهوياتي، وإنما أيضاً إلى المستوى البيولوجي، فالبشر يبدون دائماً كتلاً من اللحم، انتُزعت عنها كل الضمانات الحقوقية والأخلاقية، نسمع عنهم بوصفهم أرقاما في الحروب، وفي الإحصائيات الديمغرافية، وليس بوصفهم مجموعات سياسية متنوّعة ومتعددة، تتداول شؤونها العامة، في السلم والحرب، بما يتناسب مع رؤاها ومصالحها.
لا يقتصر ذلك على قضايا الحروب العرقية والطائفية، وتبعاتها الكارثية، وإنما يمتد ليشمل مسائل سياسية واجتماعية مختلفة، ومنها الاعتقال السياسي، أوضاع النساء، بل حتى التعليم والإعلام، إذ أن كثيراً من الممارسات في بلداننا تنتج أجساداً معذّبة، ومعرّضة للعنف الأسري والمؤسساتي والذكوري، بما يجعل تلك الممارسات منطبعة على الجسد. وبالتالي فقد نتفهّم توتر البشر في كل نقاش: إنها أجسادهم نفسها، التي تضطرب لدى تخيّل الألم الآتي. الرد إلى الحالة البيولوجية المفترضة، أو بعبارة أخرى «الوضع الطبيعي» ليس مجرد ممارسة استثنائية في البلدان العربية، بل هو القاعدة، سواء كانت مُتضمّنة في القوانين، مثل قوانين الطوارئ والأمن الداخلي، وقوانين الأسرة والأحوال الشخصية؛ أو كانت حاضرة في الأوضاع التي يغيب عنها القانون تماماً. وكثيراً لا يبقى للناس سوى شبح القانون الدولي، ورحمة «المنظمات الإنسانية» خاصة عندما يصبحون نازحين، تخلّت عنهم حتى حركاتهم السياسية «الوطنية». كما أن أغلب أنصار الصراعات العرقية والدينية يعوّلون دوماً على البيولوجيا: سيتكاثر أبناء عرقنا وديننا، أو يحلّون بأرض جديدة، بما يكسبنا النصر. هنا يصبح التوتر من الآخر بيولوجياً بدوره.
ارتباط السياسة بالشؤون الحيوية، معروف ومدروس باستفاضة، بل قد يكون أحد أهم قضايا النظرية السياسية، فالدول تُعنى بالقضايا الحياتية لسكانها، مثل نسب الولادات، الصحة، مستوى الحياة، والسلوك الجنسي «السوي» وترى ذلك من أولى تعبيرات سيادتها وهيمنتها، إلا أن الحال في الدول العربية يتعدّى ذلك إلى ما يمكن تسميته «البيولوجية المفرطة» فالبيولوجيا هنا ليست اهتماماً لمؤسسات متخصصة فحسب، وفي قضايا محددة، وإنما يُخاض معظم الصراع المحتدم على الجسم الإنساني نفسه، من العلاقة مع الدولة، مروراً بقضايا الإغاثة والمعونات، وصولاً إلى ملابس النساء. كيف سنتحاور إذا كان معظم الأشياء متعلّقة بأجسامنا؟ إذا أيّد المرء مقاومة الاحتلال والأنظمة الديكتاتورية، فسيكون للأمر نتائج وخيمة على السلامة الجسدية لآلاف البشر؛ وإذا كانت له وجهة نظر في الرواية المؤسِّسة للدولة، وما يُشتق منها من مصادر تشريع وقوانين، فإن لذلك آثاره على حضور أجساد البشر في الحيزين العام والخاص، وما يُعتبر حقوقها ومساحاتها؛ وإذا أيّد حقوق فئة اجتماعية ما، فقد يساهم في اضطرابات وردّات فعل، ستؤثّر أيضاً على الأجساد. ربما كان هذا أحد أسباب لجوء كثير من المتحاورين والمتحدثين إلى الصيغ العامة والتلميحات، وتجنّب كل من الأمثلة الملموسة، والمفاهيم المنضبطة، فهي قد تصيب جسداً ما.

مشكلة المعيار

ربما كان بالإمكان تجنّب جزء كبير من الحساسية الجسدية، حول القضايا العامة، بوجود معيار واضح، مُتفق عليه، لحرمة الجسم الإنساني، وضرورة الحفاظ عليه، وعلى الحد الأدنى من حرياته، فإذا كانت معظم المسائل السياسية لها انعكاساتها البيولوجية، وفي كل المجتمعات والأزمنة، فإن الحل للخروج من هذا التهديد هو إبعاد «السياسي» عن كل ما يبدو طبيعياً أو بديهياً أو عضوياً.
بمراجعة معظم «القضايا» التاريخية في العالم العربي، سنجد أنها ملتصقة بـ»الأرض» والطبيعة والجسد أكثر من اللازم، بل كثيراً ما تعمل البلاغة الأيديولوجية السائدة على إنتاج استعارات، تشبّه الأرض بالجسد، أو العكس، وغالباً ما يكون التشبيه محمّلاً على الجسد الأنثوي؛ كما ترفض «القضايا» غالباً كل المعايير الأساسية، للفصل بين الجسدي/الطبيعي والسياسي. نحن نقاتل العدو بأجسادنا ولحمنا؛ ولا يهمنا الموت؛ وكل أطفالنا القتلى أو المختفين يمكن تعويضهم بسرعة؛ أما النساء فلا بأس بضبطهن وتأديبهن لأجل الحفاظ على القيم.
في كل الأحوال، ربما لا يمكن للمتحاورين أن يعودوا أصدقاء، ما لم يتم الاتفاق على معيار تحييد الجسد، ليس فقط في النزاعات الاجتماعية الداخلية، والمشاريع السياسية المتنافسة، بل أيضاً أثناء مواجهة العدو، فالبشر يجب أن لا يكونوا مجرد أجساد تمزّق وتجوّع لأجل أي قضية متعالية عليهم، بل الأجدى أن توظّف كل قضية لحماية أجسادهم من الانتهاك محتمل، وأن يضع حاملو القضايا ذلك على رأس أولوياتهم.

خارج البيولوجيا

قد يكون لكل ذلك التوتر في العالم العربي بعض الإيجابيات، فملايين البشر لا يرون الاهتمام بالسياسة مجرّد ترف، بل قضية يومية لا بد من متابعتها، وتكوين رأي فيها. يؤدي هذا بالطبع لكثير من الشعبوية والتطرّف والآراء القمعية، ولكنه، من جهة أخرى، قد يعطي أملاً، ولو ضعيفاً، في تنظيم جدل جديد مستقبلاً، وسط جمهور واسع، شديد التسيّس، رأى كثيراً من تقلّبات السياسة والتاريخ. ربما، من منظور مُصرّ على التفاؤل، يمكن القول: فليتشاجر الناس اليوم، وليقطعوا علاقاتهم الشخصية، ولكنهم غداً، ومع توالي الأزمات والكوارث، سيجدون أنفسهم مضطرين للتواصل مجدداً، وعندها سيكتشفون أهمية المعايير، التي تجنّبهم التهديد الجسدي، وخسارة الحقوق الأساسية. وقد يتعب الناس يوماً من تأييد أنصار الحروب العبثية، والقتل العرقي والطائفي، ومنتهكي الحريات الأساسية، وساردي روايات البطولة، التي لا تأتي بأي نتيجة، ويعيدون بناء معانٍ جديدة لـ»الواقعية» و»العقلانية» المجتمعية. وربما لا يتعبون، ولدينا كثير من الأمثلة عن ذلك في دول عربية عاشت الويلات، ولكن «أبطالها» لم يكفّوا عن عنترياتهم، وإيجاد المؤيدين لها، تساعدهم على هذا بنى اقتصادية واجتماعية مترسخة. إلا أنه لا شيء محسوم سلفاً في السياسة، إذا أصررنا على فصلها عن «الطبيعة» ولذلك فلا بأس من المحاولة.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية