حول الخطوط التي رسمها الإستعمارعنوة يوماً لدول القارة الإفريقية علّق أحد المحللين الغربيين قائلاً إنه إذا كان من المفهوم أن تقوم الدول المستعمرة برسم خطوط حدودية مستقيمة، في افريقيا، تستجيب لمصالحها، فمن غير المفهوم أن تبقى شعوب هذه القارة، وبالتضاد مع ضرورات التاريخ والجغرافيا، تحترم هذه الحدود وتحافظ عليها حتى بعد سنوات وعقود على ذهاب الإستعمار.
وربما كان على الكاتب أيضاً أن يزيد فيقول إنه من غير المفهوم بتاتاً أن يذهب مثقفو هذه الشعوب إلى قبول قطيعة معرفية كاملة مع التاريخ السابق لبلادهم والبدء من نقطة جديدة كلياً. كأن بلادهم بلا ماضٍ، أو كأنها بدأت من حيث قيل لهم أنه البدء. فلقد تقبّلوا الفكرة بطيبة خاطر وأخذوا يدرسون تاريخ الوحدة السياسية الجديدة كما لو كانت موجودة كوحدة مستقلة منذ الأزل.
من المؤكد أن الكاتب قد تفادى طرح الموضوع بشموليته. فالإستعمار أغلب الظن لم يذهب كما جاء على لسانه، بل ترك الجانب الاستيطاني المباشر لمصلحة شكلٍ آخر أكثر خبثاً وهيمنة، هو الشكل الإقتصادي. الإستعمار ربط الوحدات الجديدة به عبر إمساكها من بطنها ومن أمنها وعلى نحو منهجي لا فكاك منه بسهولة. وهو إلى ذلك لم يترك لهذه الشعوب إمكانية التفكير بحرية بخطوطه الإفتراضية، ذلك أنه قام بتعيين حكام- قبائل على هذه الوحدات بغرض القيام بفرض احترام هذه الحدود وترسيخها. ولعله من التسرع الاستنتاج بأن الشعوب قد أذعنت فعلاً لهذا التغيير المفاجئ في شبكة علاقاتها الحياتية السابقة.
يخطئ من يظن أن الشعوب تنسى ماضيها وتخلعه بمجرد أن يقوم أحدهم، متسلحاً بمشروعية القوة، بفرض واقع اصطناعي عليها. لكن مقاومة الشعوب ترتدي أشكالاً غير مباشرة لكي تستمر في العيش وفق تاريخها الفعلي. وتأتي بعض الأحداث المفصلية من وقت لآخر لكي تذكّر من خربت ذاكرته، ومن منعته ترسيماته الفكرية من رؤية الواقع كما هو، بأن التاريخ ليس سلعة وبأنه ليس سلعة رأسمالية سريعة الذوبان.
هذا النوع من المرض الذي يضم إلى فقدان الذاكرة فقدان القدرة على ردة الفعل وإعادة القراءة كلما بدت الوقائع متناقضة مع ترسيماتنا الأولية منتشرة على نحو واسع. فالكثير من كتّابنا يصطدم بوقائع على الأرض تتعارض كلياً مع قناعاته الأولية فتمنعه القناعات هذه من وضعها في موضع التساؤل بدل الشكوى من الوقائع. يحاولون لوي عنق الوقائع لكي تتآلف مع الترسيمة التي يحملونها عنها بدلا من أن يعيدوا النظر بفرضياتهم الأساسية. ومن التقنيات الثقافية الساذجة التي يعتمدها الكاتب لتجنب الفضيحة تقنية التعمية. فكل مشكلة اجتماعية غير مفهومة يحولها الى المستوى السياسي وبما يتيح له توجيه الاتهام لخصمه السياسي.
فالطائفية الدهرية تصير وليدة النظام السياسي الذي يحاربه بدل ان يكون النظام السياسي وليد الطائفية. وأما صراعاتها التي لا يفهمها فيضعها بباب الثورات لمجرد أن يقع في الشارع على متظاهرين إثنين. وتشابك المشاكل التي تتعدى الحدود الوهمية التي رسمها الإستعمار يوماً فتصير لديه مشاكل مستوردة وخارجية. تحليلٌ يرى إلى الدور السعودي في الشام دوراً خارجياً وتدخل النظام السوري في لبنان وصاية أو إنتداباً. والصراع السعودي على العراق أو العكس صراع دول. وقيام الأهالي اللبنانيين في سهل البقاع اللبناني أو أهالي عكار بالتدخل لحساب ‘أهلنا’ وراء الحدود يصبح، حسبه، نوعاً من السلوك الأرعن وغير المبرر لعدم احترامه للحدود الرسمية المعترف بها دولياً.
تبين تطورات الأحداث، كل يوم، أن الناس، وبعكس المثقفين، لا تنسى تاريخها ولاحدودها الفعلية ولم تهضم عملياً قصة الحدود ‘الدولية’. فقضاياها المشتركة لا تقبل التقسيم ولا الحدود الشرعية الرسمية ولو دمغتها عصبة الأمم ومنظمة الأمم المتحدة من بعدها. فالمزارع اللبناني في البقاع أو في عكار يبذُرُ لكي يأكل الخليجي أو الأردني أو العراقي أو السوداني. والنفط الخليجي ما يزال مسؤولاً عن ثلاثة أرباع الدخل الوطني الفعلي للدول العربية جمعاء. تنمو اسعاره فتسجل الاقتصادات العربية نموا موازياً. تنحدر أسعاره في السوق النفطية العالمية فتسجل الإقتصادات هذه ركوداً. فنادق اللبنانيين لا تبنى إلا للزبون العربي، وكذلك الإعلام والفن والثقافة. يفتح الخليجي مصرفا فيديره المصري او اللبناني او الفلسطيني. تفتح الجزائر مدرسة فيعلّم المصري فيها. مصارف لبنان تزدهر، ومن ورائها الإقتصاد ككل، على حساب البترودولار، أي على عائدات النفط العربية. تقوم دبي من الرمل بفضل حسابات وتجارة الدول الخليجية والعربية من حولها.
وعلى الرغم من قيام المستعمر بربط اقتصادات الدول المخلوقة حديثاً باقتصاداته مباشرة لمنع قيام أي تكامل محلي بينها، بقيت وشائج العيش بين شعوب المنطقة متشابكة إلى حد يفوق التصور ويتعدى ‘الدولية’. فلا الوعي الجمعي استطاع التكيّف مع الحدود الجديدة هذه ولا الوقائع، سواء الإقتصادية منها أم الإجتماعية أم السياسية، قادرة على إثبات العكس. فالقضية الفلسطينية بقي وهجها في قلب كل عربي حتى ولو كان في آخر منطقة نائية من المغرب العربي مثلاً. وبقيت ذاكرة المشرقيين العرب تهفّ إلى جميلة بو حيرد حتى بعد عقود على انتهاء الثورة الجزائرية؟
وحدهم بعض المثقفين العرب لم يفهموا بعدُ أن ما يجري اليوم في بلادنا متشابك ومترابط. ما يزال البعض يقرأ في كتاب القطيعة، فتراه يرسل إمارات التعجب لعدم استجابة الجمهور لدعواته الإستقلالية والنأي بالنفس عن صراعات ‘الدول الأخرى’. تراه كالمغترب في الصحراء ينادي بالتغيير في دولة تنفرط أسسها وهياكلها عند كل مفترق أو صراع ينشب في المنطقة. لم يستوعب حتى اللحظة، هذا المثقف ‘الأفندي’، أنه عليه أن يقوم بجهد لكي يعود إلى التاريخ الحقيقي، تاريخ الناس الواقعي. فليس على الناس أن تتقولب في مفاهيمه عن الدولة والسياسة والقانون والدساتير التي أعدت أصلا لكيانات إصطناعية لا تحتاجها أصلا.
عناية جابر الكاتبة السياسية لاتقل براعة وابداعا عن عناية الشاعرة والناقدة…. والمطربة