تقدم مآلات السباق الانتخابي الأمريكي دليلا جديدا للمؤمنين بعطب الديمقراطية الغربية، ففي الدولة الأهم والأكبر، يجد المتوجهون لصناديق الانتخابات أنفسهم أمام خيارات قد تنحصر بين جو بايدن ودونالد ترامب. يعني هذا أن الأمريكيين سيكونون مطالبين بالاختيار، ما بين مرشح جمهوري غريب الأطوار وملاحق بسبب مجموعة من الجرائم الدستورية، وهذا في حد ذاته سابقة في التاريخ الأمريكي، وآخر ديمقراطي ثمانيني فاقد للشعبية. في حين يثار جدل حول شخصية ترامب، القادم من دون أي خلفية سياسية أو عسكرية، يولّد عمر بايدن وفقدانه للياقة الكثير من الشكوك حول كفاءته، فما يزال المتابعون يذكرون ما مرّ به من مواقف محرجة، كسقوطه من على سلم طائرة، ونسيانه لاسم رئيس وزراء استراليا.
هكذا نرى أنه يمكن للنظام الديمقراطي الغربي، أن يتمخض عن خيارات بائسة وهو أمرٌ لم تكن الولايات المتحدة مثاله الوحيد. السؤال هنا هو: لماذا يصر رؤساء مثل جو بايدن على إعادة الترشح، بغض النظر عن الظروف والملابسات والحالة الصحية، ولماذا لا يضغط الديمقراطيون في سبيل تنحيته، وتقديم من قد يكون أفضل تمثيلا لهم؟ تبدو الإجابة صعبة، والمحبط في هذا هو اتفاق الخبراء على أنه لا توجد ضمانة في حال تم استبدال بايدن، أن يكون المرشح بالضرورة نموذجيا وفق تصورات الناس.
الأمريكيون سيكونون مطالبين بالاختيار، بين مرشح جمهوري غريب الأطوار وملاحق بسبب مجموعة من الجرائم الدستورية، وآخر ديمقراطي ثمانيني فاقد للشعبية
الديمقراطيون الأمريكيون أمام تحدٍ كبير، فمن ناحية هم مواجهون بانسحاب كثير من الناخبين، الذين باتوا أكثر اقتناعا بأن البرنامج الجمهوري يخدمهم أكثر، ومن ناحية أخرى تواجههم حقيقة أن مرشحهم بعيد عن أن يكون مقنعا لفئات كثيرة من الناس، بمن في ذلك الإثنيات الملونة والطبقات التي كانت تصوت في العادة لصالح الديمقراطيين. هذه حقيقة مستخلصة من استطلاعات الرأي، التي تأتي أغلب نتائجها لصالح المرشح المنافس ترامب، والتي تشير بوضوح إلى أن جمهور الأخير لم يعد يقتصر على اليمينيين أو المتطرفين، أو الطبقة الوسطى البيضاء المسيحية، وإلى أن كثيرا ممن صوتوا لصالح بايدن في الانتخابات الماضية، ينوون تغيير وجهتهم في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. الاحصائيات تخبر أيضا أن نسبة كبيرة من الأمريكيين يرون أن حالة بايدن الصحية تؤثر على أدائه لمهامه، ومع أن فرق السن ليس كبيرا جدا بين المرشحين، إلا أننا نلاحظ أن هذا الأمر لا يطرح في مواجهة ترامب، الذي يظهر بشكل أكثر تركيزا وتماسكا. ترامب نفسه يتعمد إثارة نقطة الحالة الصحية والذهنية لمنافسه، إبان كل خطاب وبشكل يكون أقرب للسخرية اللاذعة، كما في تعليقه على لقاء بايدن بالرئيس الصيني، حين قال إن الرئيس، الذي وصفه بالقائد «الغبي»، لم يكن يعلم للحظة أين هو، ومع من، وماذا يجب عليه أن يفعل، أو كما فعل حين سخر بشكل لا يخلو من تنمر من تأتأة بايدن. في رد على الهجوم المتهكم حاول بايدن لفت الانتباه لعنصرية ترامب واصفا إياه بالنازي، على خلفية تصريحاته التي اعتبر فيها أن المهاجرين والقادمين يسمّمون دماء أمريكا، إلا أن ذلك لم ينجح، على ما يبدو، في إكسابه الشعبية اللازمة.
مع الفروق الكبيرة في البرنامج، إلا أن الرجلين تجمعها مشتركات كثيرة على رأسها من الناحية الدولية، الموقف الداعم للاحتلال الصهيوني، فهما يزايدان على بعضهما بعضا في ما يتعلق بوجوب تأمين الكيان، وإن كان ترامب يظهر دعمه بشكل أكثر سفورا. داخليا يشترك الرجلان في ظن كل منهما بأنه مرسل من السماء لإنقاذ الشعب والديمقراطية الأمريكية. يرى الرئيس بايدن أنه قدّم خدمة كبيرة للشعب بترشحه وإفشال إعادة ترشيح ترامب، الذي لم يكن رجل المؤسسات الرسمية، ولا الإعلام المفضل، والذي كان سيقود البلاد إلى الفوضى، في حين يرى ترامب أن لديه رسالة تتمثل في تحرير الولايات المتحدة من سطوة المؤسسات واستغلالها، وجعل أمريكا أعظم من خلال منح سلطة أكبر للشعب. المتحمسون لبايدن يتحدثون عن نجاحات اقتصادية، وعن تحقيق نسب نمو أعلى، وعن السيطرة على التضخم، لكن المشكلة تكمن في أن هذا لا يبدو محسوسا لكثير من الناخبين، مثلما لا يبدو محسوسا، حديث الديمقراطيين عن تقليل حدة البطالة أو تخفيف أزمة السكن. في حين يطالب الديمقراطيون بالتصويت لصالح «الديمقراطية والحرية»، ينجح ترامب في مخاطبة التطلعات المباشرة للناس عبر القول، بأنه يجب التركيز على مصلحة الشعب الأمريكي، وإن دعا ذلك للانغلاق على النفس وغلق الحدود، كما يرى أن من العبث محاولة إصلاح العالم وإنفاق الكثير من الأموال في سبيل نشر الديمقراطية، أو ممارسة الضغوط هنا وهناك. يغلق المتحدثون الرسميون باسم الحزب الديمقراطي باب الاحتمالات في ما يتعلق بترشيح اسم مختلف، وهم يصرون على نفي الشكوك المتعلقة بحالة الرئيس بايدن الصحية بالقول، إنه ما يزال قادرا على أداء المهام الرئاسية، وإنه يتمتع بصحة جيدة، كما يذكر هؤلاء بأن الرجل نجح في هزيمة الجمهوريين مرتين، مرة إبان الانتخابات الرئاسية ضد الرئيس السابق، ومرة إبان الانتخابات النصفية.
لفترة كان البعض يطرح بعض الأسماء الديمقراطية البديلة، كاسم نائبة الرئيس السمراء كامالا هاريس. هاريس ذات الأصول المختلطة تبدو قصتها مشابهة لقصة الرئيس الأسبق باراك أوباما من ناحية الولادة لأبوين مهاجرين والنجاح في الترقي في السلم الاجتماعي والسياسي الأمريكي، لكن المحامية المرموقة، التي كانت تطمح في عام 2019 للفوز بالرئاسة، فشلت في امتلاك الشعبية والحصول على قبول الجماهير، إلى جانب هذا لا يرغب كثيرون اليوم في تكرار تجربة أوباما، الرئيس الأسود، الذي تعلقت عليه آمال كثيرة ومنح وقتا كافيا، لكن دون أن يقدم إنجازا واضحا لجمهوره المكون في غالبه من الأقليات والشرائح الضعيفة. وضعت عراقيل كثيرة أمام إعادة ترشح دونالد ترامب؛ خاصة على خلفية هجوم أنصاره على مبنى «الكابيتول» في السادس من يناير/كانون الثاني 2021 وما تضمنه ذلك من أحداث عنف اتهم الرئيس السابق، الذي لم يقبل الهزيمة، بالضلوع فيها. التعديل الدستوري الرابع عشر(عمره 156 عاما ويعود لأحداث الحرب الأهلية الأمريكية) يمنع كل من شارك في تمرد على الدولة من تولي المناصب السياسية، لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة؛ حيث قاوم ترامب، وما يزال، ذلك الاتهام والاتهامات الأخرى المتعلقة بالفساد وسوء الإدارة. المدافعون عن ترامب، والذين يتبنى أكثرهم رؤيته حول استخدام الديمقراطيين للمؤسسات القضائية لإقصاء الخصوم السياسيين، ينطلقون في دفاعهم من عدة منطلقات على رأسها صعوبة تشبيه أحداث غضب مناصري ترامب بالتمرد، كما يطرحون سؤالا حول قانونية محاسبة رئيس سابق عن أحداث حدثت إبان رئاسته وفي فترة كان يتمتع فيها بالحصانة.
تعلم تجربة عام 2016، حين فاز ترامب على منافسته هيلاري كلينتون، أن من الخطأ الاستخفاف بالرجل.. اليوم تدفع الطريقة، التي حول بها ترامب أحداث محاكمته وسجنه من أمر مخجل لمدعاة للفخر، للاعتراف بقدرته على إدارة الحملة الانتخابية بذكاء. على سبيل المثال حول رجل الأعمال الماهر الصورة، التي تم أخذها له كمعتقل، إلى شعار قام بطباعته على قمصان وأكواب جاعلا من نفسه رمزا للمقاومة ولرفض الاستسلام لإملاءات «الدولة العميقة»، التي تجتهد في تزييف وعي الجماهير. الطريف أن هذا حقق له أيضا أرباحا بملايين الدولارات.
كاتب سوداني