خيانة

كيف طاوعه قلبه؟ كيف هنت عليه وأنا التي لم تهن في يوم؟ كنت أثب وثباً على درجات السلم، أركض دون أن أستشعر الأرض تحت قدميّ، عند باب الغرفة تلاقينا، هو على السرير المتنقل محاطاً بوالدتي وإخوتي، أنا على قدميّ، لا أرى سوى اخضرار يانع تبين لي بعد لحظة أنه لون غطاء سريره الذي انعكس على كل شيء من حوله. ترى لمَ التصق الأخضر تحديداً بذكرى هذه اللحظة؟ لماذا تتبدى لي الغرفة مروجاً من الاخضرار اليانع عند استحضار هذا المشهد؟ ربما هو والدي، قلبي النابض وعيناي الدائرتان في محجريهما، ورئتاي اللتان أتنفس بهما، وربما هو هذا الرجل المستلقي أسفل هذا الأخضر حول القطن العادي إلى مروج غلفته والغرفة معه.
أنا وأبي وهذه اللحظة، ابتسم وابتسمت، كيف أنت بابا؟ أنا بخير حبيبتي، مستعد للعملية؟ نعم أكيد، أراكم جميعاً بعد دقائق، نعم حبيبي، في أمان الله، ننتظرك، لا تتأخر.. ابتسامات.. اتركوا نظارتي على وجهي. أتريد أن ترى العملية بوضوح؟ ضحكات.. ابتسامة بابا.. نظارة بابا.. يده.. أصابع قدميه.. غطاؤه الأخضر.. هيا أفسحوا الطريق أريد أن أنتهي من هذه العملية بسرعة.. بالسلامة حبيبي لا تتأخر.. أعدكم أن أعود سريعاً. نظارة بابا.. الاخضرار اليانع.. صوت عجلات السرير مبتعداً، الممرضون ببياضهم.. قرع عال.. صوت مزعج، من أين هذا الصوت؟ بين ضلوعي، بابا في المصعد الحديدي الكبير.. أراكم بعد قليل، في أمان الله.

لا أدري كيف جرؤ هذا الرجل على أن يمرض، كيف تمادى قلبه ليتضخم وشرايينه لتسد، كيف فكر بيولوجياً بجسده العظيم ولو للحظة أن يمرض؟

كيف طاوعه قلبه؟ كيف هنت عليه وأنا التي لم تهن في يوم؟ بعد ساعة ونصف الساعة جاءنا اتصال طبيبته مطمئناً، عملية ممتازة، قلبه متين، كنا على حافة الخطر، شرايين مسدودة، دعامات قوية، كم عددها؟ أربعة. أربعة دعامات تستقر في أعظم قلب في الدنيا، في جسد أعظم رجل في العالم. أتراني أغار من الدعامات؟ تقول أمي إنني كنت أغار على أبي من كل شيء وأي شيء، بما في ذلك هي، فهل أستشعر الغيرة الآن؟ من دعامات؟! لا، هو شعور آخر، أنا غاضبة، أكاد أستشعر الهواء ساخناً يخرج من فتحتي أنفي وكأنني تنين ثائر، أكاد أرى عينيّ تدوران في محجريهما كنمرين متحفزين، أنا في قمة الغضب رغم كل ما يشوب شكلي الخارجي من هدوء كما ألمح أخي، أنا في أعلى قمة ثورة غضب عارمة.. تجاه والدي.
لا أدري كيف جرؤ هذا الرجل على أن يمرض، كيف تمادى قلبه ليتضخم وشرايينه لتسد، كيف فكر بيولوجياً بجسده العظيم ولو للحظة أن يمرض؟ من سأكون أنا لو أنه استسلم في يوم لقلب مرهق أو شرايين مسدودة؟ أتراني هنت عليه حد أن يهمل قلبه ونفسه؟ كل مرة قضم فيها أبي قضمة دهنية هي خيانة لي، كل مرة أجهد فيها نفسه في العمل هي استهانة بي، كل مرة تعــــب ولـــم يـــراجــــع طبيباً.. كل مـــرة تحــمل وتحامــــل على نفســـه.. كل مرة عرّض نفسه لخطر مهما صغر.. طعــنة في خاصرتي، وعلى يد من؟ يد هذا الرجل الذي لم أهن عليه يوماً في حياتي، فكيف هنت اليوم؟
بابا الآن في بيته، في فترة نقاهة لأيام معدودة سيعود بعدها أسداً جسوراً في وقفات الحق المبدئية التي عهدتها منه طوال حياته، وأنا الآن في بيتي أصارع غضبي منه ونقمتي على كل القلوب والشرايين والأوعية الدموية. كلما تذكرت المستشفى ولحظة اللقاء الأخضر على باب غرفته، فار غضبي وتحجرت مقلتاي وتوقفت غصة حارقة أعلى حنجرتي، فأنا بلا جواب حتى الآن، كيف جرؤت الدنيا أن تقترب من هذا الرجل؟ كيف هنت أنا عليه؟!

كاتبة كويتية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صوت من مراكش:

    اكثر من سبب جعلني اقرأ جديد السيدة ابتهال الخطيب الليلة و أعيد

    ذلك بشهوة في الاسمرار في ذلك، بلا مبالغة كان نصا كامل الانشاء

    متين البناء ، فكرته ، جمالية لغته ، و تدفق الفطرة منه بلا تكلف كل

    هذا و ذاك هيأ مناسبة احتفال فخمة واحتفاء مهيب بكل أب . ليس غريبا

    إذا أن تحظى الفتيات بمكانة خاصة في قلوب آبائهن فعكس ما يشاع في كون

    الآباء يوثرون الأبناء على البنات فللبنات مرتبة رفيعة عندهم لا يرقى لها ورثة اسم

    سلالتهم، و لمن يشكك في جدارتهن بها فهذا النص المتقد رهافة من خواطر كاتبه

    الصادقة حجة صارخة فيه . في النهاية أتساءل كيف يمكن تخذير الملائكة فيكن و

    انتن حاملات لخزان لا ينضب من المشاعر المرهفة ؟ أكتفي بهذا السؤال و لو أن

    أسئلة غيره من وحي مقالات سابقة مستأذنة منتظرة

    تحياتي

  2. يقول سيف كرار ،السودان:

    لا لا لا تحزني …جئنا إلي الدنيا بوثيقة إنسان….

  3. يقول المغربي-المغرب.:

    كتبت تعليقين حول هذا الموضوع الرائع للدكتورة ابتهال من منطلق تقييمي لعمق العلاقة الوجدانية بين الأب وابنته عند كافة البشر من الأنبياء والزعماء والفلاسفة…الى سائر الناس…مع تبسيط لتجربتي الشخصية في تعلقي الشديد بابنتي…ولكن مع الأسف مسح كلا التعليقين بسبب عارض تقني مرتبط بالتحديثات التي تم اذخالها إلى الموقع ….فأتمنى من الأخوة المسؤولين عن الصحيفة الانتباه إلى هذا الأمر وشكرا.

  4. يقول سلام عادل(المانيا):

    تحية للسيدة الكاتبة وللجميع
    حقيقةاستفزني العنوان في البداية ومع قرراءتي للمقال اعطيت العذر للكاتبة فمفردة الخيانة تجعلنا نشعر بالاشمئزاز ممن يحملونها ولهذ يتعج الشاعر السياب ممن يفعلها وخاصة ان كان الفعل يتعلق بالوطن(إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون أيخون إنسان بلاده؟) ومع ذلك ارى ان يهتم الاباء بصحتهم من اجل ابناءهم وخاصة ان كانوا ببحاجة ماسة لهم عاطفيا.

  5. يقول أحمد -لندن:

    الحمد لله على سلامتك والدك و اتمنى له دوام الصحة و العافية و ان يعود أسدا جسورا كما عهدتيه.

    لا أستطيع ان اقرأ مقالاتك منفردة بدون ربطها بسلسلة مقالاتك السابقة و الأفكار التي وردت خلالها فهم كالظفيرة لا يمكن فصلهما عن بعض فكريا.

    استوقفتني بعض الكلمات في مقال اليوم و اللتي لها علاقة بصفة المذكر و المؤنث في اللغة العربية و هو مضمون مقالك قبل أسبوعين.

    ذكرتي طبيبة و ليس طبيب! و اقدر لك جهدك في دلك.

    رئتان مؤنث و هواء مذكر يا الله على هذا التكامل. ماذا يفعل الهواء بدون الرئة؟

    قلب مذكر و دعامات مؤنث! ما أروع قصة الحب هذه بين القلب و دعامته!

    أليست لغتنا العربية رائعة يا ابتهال.

  6. يقول تونسي ابن الجمهورية:

    كم اتمنى ان تكتب على ابنتى فى المستقبل مثل هذه الكلمات ….رائع ….تحيا تونس تحيا الجمهورية و لا ولاء إلا لها

  7. يقول رؤوف بدران-فلسطين:

    هذه هي المرة الالف التي من خلالها بِتُ متأكدًا ان الانسان مهما كبر وهرم تبقى عنده مساحات من الطفولة , تشده في شوقٍ جارف الى طفولته ..الى شبابه …الى محبة اهله , وها انتِ يا ابتهال عاودك الحنين ناحية ماضي السنين , فزادت عندك المحبة ,لهفة الغيرة حتى من المواد التي انقذته ومن الدعائم الصلبة التي ترتكز عليها الاوردة لاستبقاء استمرارية الحياة !! ما احن قلبك وما اجمل تعبيرك حتى في ساعات غضبك من ايةُ نسمة , همسة تؤثر على هدأة والدك , آآه ما اجمل وما اسمى بما تفكرين , ان حرصكِ دكتور ابتهال على سلامة والدك , نابع ليس من قلة الايمان بالقدر؟! لا..لا حرصك الشديد, هذا هو الايمان القوي الصلب بحتمية المكتوب على صفحات الغيب …ولكن المحبة تجعلنا احيانًا نستعيض عن الموجود بالمنشود ,
    اللون الاخضر هو لون العطاء الذي يشمل فكرك دكتور ابتهال !! واللون الازرق هو لون الصفاء الذي يميز طيبتك الممزوجة باليقظة والحكمة , وحسن التصرف والسلام.
    التحية موصولة لكل متابعي مقالاتك في القدس العربي الحبيب.

  8. يقول غادة الشاويش -الاردن:

    شافاه الله وعافاه د ابتهال كان المقال مقالا لكفلة ثائرة لم تكبر كان مقالا يانعا اخضر لقصة حب لا تنتهي تدعمها البيولوجيا هذه المرة ولا تصارعها …ولا بد لي من نكتة ايديولوجية هل كنت لتقبلي التمرد على هذا الحبيب …اعتقد انه من المستحيل …سيعود وستتكلمان معا وستعانقيه عناق عتاب ولن تسمخي له ان يزيح ابنته التي تشبه مادة لاصقة للابد من ذراعيه ..لن ..وكلما اراد ابعادك عن كتفيه ستغرقين في بحر قلبه وسترفضين كل اطواق النجاة …وسيكون ادفأ غرق يشعل قلبك نارا حتى كانون ..وستكون دموعكما اجمل مطر في تشرين ولو قرر الرحيل ستتبعين ظله وتسبقيه هناك الى مرقده الاخير وستنكرين انفاس الحياة لتتنفسي فقط نبضات قلبه الراحلة
    ابنة تحب حبك لابيك وتحب اباها جدا ولن تتمرد عليه لا عشان الايديولوجيا ولا عشان حتى عيون القدس وهي غاضبة الان منه جدا حتى يغير قوانينه ويراجعها
    قارئتك المحبة غادة

  9. يقول غادة الشاويش -الاردن:

    الان يا رفيقة القدس اللدودة د ابتهال يطيب لي ان ارتكب شيءا من الشماتة الايدولوجية ليس على سبيل الاستفزاز بل على سبيل المرح والمزاح …الان ماذا فعلت بابر تخدير الملائكة اكاد اقسم انك تودين لو انقرضت كل مخدرات العالم …وستكسرين كل الابر .. وسينبت لك جناحين وكلما خفق قلبك ستطيرين في سمائه …وستشرق تللك الحلقة المضيىة فوق رأسك كلما نبض قلبك وستطيرين في سمائه وتسجدين تحت عرشه واذا قدر لك ان ترفعي وجهك من السجود فلن ترفعيه ان قدر لعينيك ان تجدان زرقة السماء وليس سواد عينيه لن ترفعيه الا بضمان ان تجدي عينيه تملءان الافق والمدى فتسبحين فيهما كشعاع مسافر يرفض الوصول الى مرفأ (الاحترام وخروا له سجدا عشان ما حدن يقللي حلال وحرام حاسة منيح انا شو عم اكتوب وسامحوني على العامية فربمل شفع لي عشقي للعربية ببعض التساهل الان ) ..نعم الملاك كائن لا يخضع للتخدير ..انه مارد يضخ نوره في كل عتمات الروح ويعلن سطوة الفطرة الخافقة بالطيبة والمحبة
    المحبة غادة

  10. يقول المغربي-المغرب.:

    رائع تعليقك يا غادة. ..ولكنني مع الأسف لا استطيع كتابة تعقيب أطول من خلال راقن الهاتف. ..لأنه يمسح تلقائيا بعد عدد محدود من الجمل. ..وهذا من سلبيات التطبيق الجديد الذي تم وضعه في الموقع…أتمنى أن يلتفت الإخوة في التحرير إلى هذا العائق وشكرا.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية