تونس ـ «القدس العربي»: أزعم أن إبداعيةَ كتابةِ الراحل خيري منصور تنهض على دعامةِ التمازجِ الأليفِ بين حالته وفكرته: حالةُ المُرَحلُ من وطنه، وفكرةُ البحث في اللغة عن وطنٍ، بل إنه ليجوز القولُ إن خيري منصور إنما هو حالتانِ، مادية وذهنية معا، تتبادلان في ما بينهما مَحَل الدالِ على مِيزته الكتابية.
ولا شك في أن قارئَ أشعاره ومقالاته سيقف على حقيقةِ أن الراحلَ عاش الكتابة، وكتب معيشَه، بهدوءٍ تام، في زمنٍ ضاج بالأحداث، وفي جغرافيا مليئة بالتوترات. غير أن هدوءَه لم يكن تملصا من أدواره الثقافية والوطنية والإنسانية، وإنما كان الهدوءَ الذي يسمح برؤية جواهر الأشياء بعيدا عن مغالطاتها السياسية والانفعالية. وسعيا من «القدس العربي» إلى تبين بعض خصوصيات كتابات خيري منصور الإبداعية، تَعرِض هنا آراءَ ثلاثةٍ من المثقفين العرب، وهم سعيد الجريري، الجامعي والشاعر اليمني المقيم في هولندا، ومحمد السمهوري، الفنان التشكيلي الفلسطيني، وقاسم توفيق، الروائي الأردني، وقد حاول كل واحد منهم الكشفَ عن جانب من جوانب أدبية أشعار خيري منصور ومقالاته الصحافية ومواقفه الحياتية باعتبارها حالة من أحوالِ الكتابة ذاتِها.
*****************
لم تكن مقالات خيري منصور نمطية، فهو يكتبها بشعرية المقالة، ولعلها لذلك كانت مقالات مُلهِمة، وليست حاملة فكرة فقط، أو رسالة إبلاغية
سعيد الجريري:
كتابةُ خارجَ النمَطِ
ثمة في وعي خيري منصور، الشاعر أو الناقد، أو كاتب المقالة، ما لا يستسيغ النمَطَ، بما هو إعادة إنتاج أو تَكرار، مهما يكن جميلا، فهو مُحيل إلى نقطة غير إبداعية. ولذلك الوعي امتداده في رؤيته للحياة وتحولاتها؛ لذلك فما يصل خيري منصور بالشعر في تجلياته المعاصرة، تفعيليا كان أم قصيدة نثر، هو كيف يتجاوز الشاعر قطيعية النمَط، ليؤسس نصه ولغتَه وتشكيلَه الخاص، وذاك ما كان خيري منصور يمارسه إبداعا شعريا أو نقدا أدبيا، بالدرجة الأولى، وهو ما يمارسه أيضا بدرجات متصاعدة في كتاباته الأخرى، ومنها المقالات التي تُغني مقالة واحدة منها عن كتاب، كما قيل في وصف دال على فرادتِها أسلوبا وعمقِها رؤية، واتساعِها ثقافة وفكرا.
لعل ما ينماز به خيري أن ثقافته وتجربته وتحولاتهما رفدت كل منهما الأخرى، لتشكلا الثلاثي: الشاعر – الناقد – الكاتب، فائضا الشاعر على الناقد من رؤاه، موازيا بالناقد فائضا على الشاعر من حدسه وتصوره، فائضيْن معا على الكاتب ذي الخلفية الثقافية والفكرية الواسعة، وهو ما يسم مقالته بالإدهاش الاستجلائي الذي يُحرر المقالة من جفاف التناول النثري، ليتلقاها القارئ، مثيرة تساؤلاته تماما كأنه إزاء قصيدة أو قراءة تستبطن نصا إبداعيا، وليست مقالة تستجلي أفكارا يجاور فيها الثقافي السياسي أو الاجتماعي أو سواهما من القضايا الإشكالية الراهنة في الثقافة والأدب والفن والسياسة أيضا.
لم تكن مقالات خيري منصور نمطية، فهو يكتبها بشعرية ما، أكاد أُسميها شعرية المقالة، ولعلها لذلك كانت مقالات مُلهِمة، وليست حاملة فكرة فقط، أو رسالة إبلاغية. ولعلي – قارئا شغوفا بمقالاته – كنت أتأمل فيها الإشارات الخفية التي كان يرسلها، على حواف القضية التي يستعرضها أو يناقشها، فقد تجد أنك تجوس معه نقاطا جديدة في أقاصي العالم والتاريخ والثقافة في مقالة واحدة، من دون أن تشعر بأنه يمارس مهنة الدليل الثقافي. قد تجد في مبدعين آخرين ما يميز مقالاتهم ويمنحها سماتٍ خاصة، ولكنك ستجد أن مقالة هنا أو هناك يطغى فيها الشاعر على الكاتب، فهو يلوذ بالاستعارة والصورة الشعرية كُلما عَشِيَتْ عَيْنَا تأملاته النثرية، أو خشي أن يقع في مهواة السياسة الفجة أو الأيديولوجيا، لكنك في مثال خيري منصور تجد هارمونيا كتابية يتماهى بها مبدعون منسجمون في لغته، يتعايشون بديمقراطية لغوية، يحترم أحدهم الآخر، وهم ينتجون ما يمكن تسميته مقالة خيري منصور، وهذا مستوى عال، قلما تجده في أدب المقالة المعاصرة، في ما أتصور .
محمد السمهوري:
الكتابةُ المُثَقفةُ
في كل مرة كنتُ أقرأ فيها للكاتب خيري منصور، أجدني أدخلُ أكثر إلى عوالمه الوسيعة، ولعل القصيدة كانت بابا من أبواب دخول عوالم خيري الإبداعية المتعددة، فرغم احترافه الأدبَ بكل أجناسه، إلا أن القصيدة، عند العارفين به، كانت الكتابة المثقفة التي أرجو من النقاد والقراء أن يُعيدوا قراءتها، لما تمثل من اختصار لوعي خيري الحسي والكوني معا. لم يبخل خيري بمعارفه ومكانته الأدبية والثقافية وحتى السياسية على جمهوره المتعطش للمقال الشمولي الذي ميزه عن أقرانه الكتاب الكبار، فقد أوجد خيري منصور مساحة وسط كل هؤلاء، هي مساحة مقال يخاطب كل الفئات، ويسهم في رفع الوعي لديها، ويقدم لها تحليلا يحمل رؤى للمستقبل. إنه فتح لنا نحن القراء، عبر مقالاته اليومية، بابا ندلف منه إلى مكانٍ يثير فينا الرغبة في النقاش والحوار. كما استطاع أن يُحول المعلومات والاصطلاحات العلمية التي في مقالاته إلى مادة معرفية محمولة في أسلوب رشيق ومفعم بالحيوية، وهذا ما شدّ إليه قراءه، بل استطاع به أن يُمثل كل فئات المجتمع العربي بنخبه الثقافية والأدبية والسياسية جميعها. وأزعم أن كاتبا بحجم خيري منصور وجرأته يندر أن يتكرر مرة أخرى، فقد ترك لنا إرثا كبيرا من النتاج المعرفي والأدبي والثقافي والسياسي الرصين. وإنه يتوجب علينا، من أجل إنصافه، أن نُعيدَ قراءته أكاديميا ونقديا، وتقريبه إلى من لم يقرأه بعدُ، لما فيه من قيم للعدالة والحرية والكرامة الإنسانية.
كتابات خيري منصور تشبهه إلى حد بعيدٍ، فهو لم يكن مثل بعض مجايليه الذين يكتبون الشيء ويفعلون نقيضه، بل كانت الكتابة بالنسبة إليه هي لحمه ودمه وقلبه وعقله وضميره، ولذلك بذل الكثير من الجهد والمعاناة لكي يعتمد في عيشه على الكتابة والفعل الثقافي الإنساني. وعلى عكس بعض الكتاب والمثقفين، لم يتعامل خيري مع مكانته كمثقف بانتهازية، وهذا ما جعل منه صوتا حرا ونزيها وصادقا في كتابته وفي حياته. كان يقرأ الأحداث بصوت مختلف، ولا يتعامل مع ردود الأفعال، بل كان يضع النقاط على الحروف في زمن اختلطت فيه المواقف وأصبحت اللغة بلا مشاعر، محايدة وبلا صراخ أو احتجاج. ولعله كان من أكثر الأصوات التي كانت تصرخ وتحتج على الواقع العربي والعالمي من خلال كتاباته وإبداعاته المعرفية، يفعل ذلك بأسلوب رشيق وعميق معا. وهو لم يسعَ إلى الشهرة، ولم يسعَ إلى الثروة، أو إلى المناصب السياسية والثقافية، ولم تعنِه مباهجُ الحياة وترفُها، فعاش بسيطا يحب الحياة والأناقة وعوالم قاع المدنية وتعلقه باقتناء الأعمال الفنية و«الإنتيكات» التي تشكل له علاقة مع الماضي بجمالياتها وتاريخها، وربما كانت اهتمامات خيري حتى في هذا المجال ذات طابع راقٍ إبداعيا وحسيا.
غاب خيري عن عالمنا. ولكنه باق في قلوبنا ووجداننا، بقي فينا صراخه من أجل الحرية، تلك الحرية الحقيقية التي عاشها بشغف وحب، تاركا لنا إرثا كبيرا من المعرفة والأدب والثقافة والمقالات التي ستؤكد صوابية دفاعه عن عدالة الإنسان والانتصار له.
مقالة خيري منصور تُعيد في كل مرة استحضار ثقافة الأرض بعشرات الكلمات، أتنقل فيها من كونفوشيس إلى سقراط وأرسطو.
قاسم توفيق: المقالةُ المُستفِزةُ
عندما تتوالى علينا الخسارات، لا نجد غير أن ندافع عن حزننا لكي لا ننسى. وعندما نفقد كاتبا مثل خيري منصور يكبر الحزن فينا، فلا نعود قادرين على فهم ما يحدث. نحتار في البحث عمن يواسينا ويخفف من وجعنا. أعترف بأنني عندما علمت بخبر موت خيري، الذي لم ألتَقِ به شخصيا رغم قرب المسافات بيننا، شعرت بفداحة خسارتي. ها قد رحل رجل كان يُمْتِعُني استفزازُه لي كل أسبوع على صفحة «القدس العربي»، وفي كل يوم على جريدة «الدستور»، لكي أقرأ له أكثر وأبحث في معانيه أكثر.
عندما أبدأ في قراءة مقالته كنت أهيئ نفسي ليوم من الاختبار والبحث، وإعادة الاكتشاف، أختبر معرفتي بشهاداته وقراءته ونهجه في تفسير ما يراه من كون الثقافة العالمي، ومن مواقفه الفنية والسياسية التي تخص عالمنا العربي. لا أتذكر إن كنت شعرت مرة بأني قد مللت من قراءة مقالة له إلا نادرا. أسلوبه فذ في نقلي من قراءة العنوان إلى منتهى المقال الذي لا أحب أن ينتهي. كُنت أبقى مشدودا أبحث عما يجب أن أبحث عنه اليوم.
مقالة خيري منصور تُعيد في كل مرة استحضار ثقافة الأرض بعشرات الكلمات، أتنقل فيها من كونفوشيس إلى سقراط وأرسطو، وأمضي صوب الديانات وأصحابها، ومن تلك إلى جان جاك روسو، وهيغل، وكانط، ثم ماركس وإنغلز، وصاحبهما لينين، لأدخل عالم الوجود بسارتر وكامو، وحياة قضيتي الأساس فلسطين، وناسها ومبدعيها، ولا أعترض على حضور محمود درويش المتكرر لأن حضوره دائم فيّ أيضا.
هي مقالاتٌ نقلاتٌ تستفزك وتستحدثك على أن تحاول التعرف على معنى وجودك وماهية معرفتك ووعيك وقد تتركك خائبا، لكنك لا تملك غير أن تصير ممتنا لهذا الذي أعاد لك الذاكرة، أو أثار فضولك. وبمثل هذه الصورة تكونت علاقتي بالمرحوم خيري منصور، وبفقده حاولت أن أعزي نفسي بأن كل ما كتبه لا يزال محفوظا وطوع نظري، ولا يزال يستفزني للبحث واستكشاف وعيي بما يكفي عمرا جديدا طويلا. وإن ما جعلني لا أنقطع عن متابعة ما كان يكتبه خيري منصور سنين طويلة هو أنه لم يتخل عن مواقفه وآرائه في كل ما يدور في عالمنا الممتلئ بالتناقضات على عكس الكثيرين وإن كنت لا أتفق معه في الكثير من هذه المواقف. لا أكتب هنا مرثيَة، بل قراءة لما يجب أن يُقرأ. لروح خيري منصور السلام.