تقدم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بطلب اعتقال رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت وقادة حماس المتمثلين في رئيس المكتب السياسي «لحماس» إسماعيل هنية، ورئيس المكتب السياسي« لحماس» في غزة يحيى السنوار، وقائد كتائب القسام محمد ضيف. فأما أسباب طلب اعتقال الإسرائيليين، فتتمثل في المسؤولية الجنائية عن جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، وأما أسباب اعتقال الحمساويين فتتمثل في الإبادة والقتل واحتجاز الرهائن والاعتداءات الجنسية.
وعلى الرغم من فداحة كذب وغرابة التهم الموجهة للجانب الفلسطيني، إلا أن قرار توجيه الاتهامات لا يزال قراراً إيجابياً، فهو سيسحب كل الأطراف إلى دائرة الحديث، وسيفتح الباب أمام عمل استقصائي وبحثي موسع سيكشف الكثير من الجرائم الصهيونية لربما حتى القديم منها والمرتبط وثيقاً بما يحدث على الساحة الآن. لربما تحاول الجنائية الدولية إثبات توازن في قراراتها، ولربما هي ملزمة بسحب طرفي الصراع -أقول ذلك مجازاً ذلك أن الواقع يعكس حرب إبادة لا صراعاً بين طرفين متحاربين- إلى ساحة الاتهام لاستعراض الوضع وتمحيصه، ولربما هي تحمل موقفاً سياسياً تمييزياً تجاه الحمساويين. كل ذلك جائز، وتبقى المحصلة أن تقديم طلب الاعتقال هو أمر إيجابي ممتاز تجاه القضية الفلسطينية.
وماذا لو دفع أمر اعتقال الحمساويين بفتح باب مناقشة أداء فتح وحماس وأبواب تكويناتهما السياسية ولربما آثامهما هما بحد ذاتهما تجاه صراع التحرير الفلسطيني؟ ليس هو الوقت المناسب؟ لن يكون هناك وقت مناسب مطلقاً، ولكن ستكون هناك فرص صعبة، كهذه اليوم، والتي لا بد أن نستغلها لمحاكمة مجرمي الحرب الصهيونيين، ولمراجعة أنفسنا وتقييم أدائنا جميعاً، الساسة الفلسطينيين والعرب وعموم المجتمع الدولي. كلنا نستحق مذكرات اعتقال، تهاوناً في حق الإنسانية وسكوتاً عن المجازر البشرية وكتماناً للشهادات أخلاقية، كلنا بلا استثناء.
وإسرائيل الصهيونية تعترض، تقول إنها ليست عضواً من بين المئة وأربعة وعشرين دولة الأطراف في معاهدة روما المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية، مثلها في ذلك مثل أمريكا، وهي مفارقة مؤثرة، ذلك أنهما كيانان سياسيان لا يستحقان ولا يحتملان أن يكونا في نظام قضائي يحاول، ولو مجرد المحاولة، أن يكون عادلاً وأن يحاكم مجرمي الحرب والقتلة. إلا أن فلسطين، ويا لعظمة هذه الحقيقة! هي عضو في هذه المعاهدة. ولأنها الطرف المتضرر، يمكن للمحكمة أن تنظر في طلب الاعتقال، ويمكن، نأمل وننتظر، أن توافق عليه، ليصبح تنقّل مجرمي الحرب الصهيونيين عملية غاية في الصعوبة، ذلك أنه سيكون عليهم أن يحذروا الهبوط في واحدة من تلك المئة وأربعة وعشرين دولة، حيث سيكون من الممكن جداً أن يتم اعتقالهم.
ليست هذه بدعة مستحدثة، ذلك أن مثل هذه المذكرة صدرت بحق الرئيس الروسي بوتين بسبب جرائم الحرب المرتكبة على الأراضي الأوكرانية، وهو ما دفعه لإلغاء بعض رحلاته والحد من حركته ولو إلى حين. إلا أن الواقع أن صدور أمر بالاعتقال في واحد من الدول الأعضاء هو أمر صعب جداً، وسبق أن نفد منه الرئيس السوداني السابق عمر البشير رغم زيارته لعدد من الدول الأعضاء التي كان يفترض بها أن تتمِّم أمر اعتقاله. ومع ذلك، فإن هناك سوابق «إيجابية» لتنفيذ أوامر المحكمة الجنائية الدولية، منها مثلاً حالة الرئيس اليوغسلافي السابق، والرئيس الليبيري السابق، والرئيس الصربي السابق وغيرهم، حتى إن الرئيس اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش «توفي في زنزانته في لاهي في 2006 أثناء محاكمته بتهمة الإبادة الجماعية في محكمة جرائم الحرب اليوسلافية» طبقاً لموقع الجزيرة نت.
وعليه، يبقى أن نلعب هذه اللعبة السياسية، هي ليست عادلة ولا آمنة ولا مضمونة العواقب، لكنها كل ما في اليد الآن على الصعيد الدولي؛ وعليه لربما يكون من الجيد أن نتعامل بإيجابية مع الطلب المقدم للمحكمة، وأن نتمنى، حال قبوله، أن تكون هذه فرصة للحمساويين لتوضيح الجانب الفلسطيني الحمساوي الغامض عند البعض حالياً، لتبيان الحقائق واستعراض الدلائل التي سَتُخلي ساحة «حماس» كمقاومة وتنقض فكرة أنها طرف متساو في نزاع مسلح. «حماس» تمثل الآن حركة مقاومة مناهضة للاستعمار، ولربما صدور مثل هذا الطلب يفتح باب تحقيقات مستحق موضحاً ما لحماس وما عليها.
أقول قولي هذا وأنا، مثل معظمنا في شرقنا الأوسط المشتعل، «أطبش» في الدخان الكثيف للموقف. لا أدري حقيقة إن كان تحرك المدعي العام الذي شمل قادة حماس أمراً ستكون له التداعيات الإيجابية التي نأملها والتي ذكرت آنفاً، ولو بسذاجة، توقعاتي تجاهها. لكن هذا التحرك هو ثاني خطوة دولية لها صفة الجدية بعد دعوى جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل لانتهاكها اتفاقية منع الإبادة الجماعية. وعلى أن الأمل في النتائج ضعيف، لكنه يبقى أملاً، يبقى خيط شمس في وسط دخان الحرائق المستمر عندنا. والآن تتوالى اعترافات العالم الدولي بفلسطين، آخرها اعترافات إيرلندا وإسبانيا والنرويج، ولربما تقود هذه الخطوات الصغيرة المتفرقة إلى نهاية النفق، ونرى قريباً خيط النور.