يستعمل الإنسان اللغة للتواصل مع غيره، والتفاعل معه في ضوء تعاقدات حول توظيف الكلمات وتركيبها، بقصد إبلاغ دلالة معينة في سياق محدد. ولما كان استعمال اللغة مفتوحا على التداول وما يقتضيه من خصائص تضفي عليه مسحة جمالية وبلاغية خاصة، كان اللجوء إلى المجاز والاستعارة والتعبير بالصور، بدل الاكتفاء بالدوال المتصلة بمدلولات معينة، ولاسيما في المخاطبات والمكاتبات بين النخبة داخل المجتمع. هذا ما تعارفنا عليه من خلال التمييز بين اللغة اليومية والأدبية، غير أن التداول اللغوي لا يعني دائما ارتهانه إلى توظيف اللغة بهدف التواصل، وإبلاغ المعنى وفق مقتضيات الحقيقة والصدق، فالكذب والمراوغة، وادعاء الصدق محل الكذب، والإغراء، والوعد والوعيد، وغيرها من الأساليب يلجأ إليها المتكلمون أبدا في كل زمان ومكان بهدف تحقيق أغراض خاصة، ومصلحة محددة على حساب المخاطب وضد إرادته عن طريق التدليس والخداع وغيرهما.
أشاعت وسائل الاتصال الجماهيرية، وبعدها الوسائط المتفاعلة إمكانية مخاطبة أكبر عدد من الجماهير عكس ما كان في العصور القديمة. وصار الاستعمال اللغوي، ولاسيما في المجال السياسي والاجتماعي يكتسب بلاغات خاصة قوامها تقديم الباطل على أنه الحقيقة، والصدق على أنه الكذب. وهكذا صارت الدوال في كل اللغات المعاصرة التي كانت محملة بمدلولات متعاقد عليها اجتماعيا وتاريخيا، ومتعارف على ما تحمله من قيم وأخلاق وعادات محل تغيير وتبديل لتحقيق مكتسبات جديدة تصب في مصلحة فئات خاصة، ومجموعات اجتماعية محددة. فصارت بعض الدوال التي كانت تحمل دلالات وقيما سلبية، تُحرَّف عن استعمالها الأصلي، وتقدم عوضا عنها دوال ناعمة، تتناسب مع المدلولات الصلبة التي يراد فرضها وتداولها.
سأحاول تقديم بعض الأمثلة عن هذه الدوال الناعمة ذات المدلولات الصلبة لأبين أبعاد هذا التحويل ومقاصده الكارثية. فعلى المستوى السياسي والحربي، ظهر دال «الفوضى الخلاقة» إبان غزو العراق، وإلى جانبه «العملية الجراحية» ليدلا معا ليس على الحرب على العراق وتدميره بالكامل، ونهب ثرواته، وإشاعة الطائفية فيه، وسرقة آثاره، لكن على نشر الديمقراطية. ونجد الشيء نفسه في دال «الأمن القومي» في السياسة الأمريكية، و»الدفاع عن النفس» في كل الممارسات التي تقوم بها إسرائيل ضد الفلسطينيين، وهي تقدم على هدم البيوت، وقلع الأشجار، وبناء المستوطنات، ومتابعة المناضلين واعتقالهم، في الوقت التي تسمى ردود أفعال الفلسطينيين بالعمل الإرهابي، ومع بروز القاعدة صار دال «الإسلام» هو الإرهاب، وكل عمل يعارض النظام العربي، حتى إن كان يطالب بالخبز والحرية اعتبر إرهابيا. وكلما قام الفلسطينيون بعملية ضد إسرائيل نجد أمريكا والدول الغربية يتحدثون عن الإرهاب، وحين تقوم إسرائيل بأعمال في أقصى وأقسى درجات الهمجية يعتبرون ذلك دفاعا عن النفس، ويطالبون الفلسطينيين بـ«ضبط النفس».
إن كل الجرائم الأمريكية والصهيونية التي تدخل في نطاق الجرائم ضد الإنسانية، ليست سوى فوضى خلاقة، وعمليات جراحية، وأمن قومي، ودفاع عن النفس. وكل ذلك يتلاءم مع المقصد الأساس وهو نشر «الديمقراطية». وليست الديمقراطية هنا سوى مقابل لغوي لما قام به الاستعمار الأوروبي من فظائع باسم «تحضير» المتوحش.
على المستوى الاجتماعي بدأنا نسمع دوال، مثل: «العلاقة الرضائية» و»الأمهات العازبات» و»الأطفال المتخلى عنهم» و»المثلية» وكثير من الدوال الناعمة التي تتستر على الفظائع الاجتماعية والفساد الاجتماعي والأخلاقي. إذا كانت الدوال الناعمة سياسيا وعسكريا ينتجها من يرمي إلى بسط وجوده عالميا باسم الـ»ديمقراطية» نجد الدوال الأخيرة تتصل بما هو ديني واجتماعي بهدف «التحديث» ونشر قيم وعادات دخيلة على المجتمع العربي الإسلامي، وتثبيت للتبعية للنموذج الغربي، وهي تشترك في حقل دلالي مشترك هو «الجنس». فإذا كان المدلول الملائم للعلاقة الرضائية هو الزنا، فإن مدلول الأمهات العازبات هو العاشقة المضللة، أو المغرر بها، أو المغتصبة، وإن الأطفال المتخلى عنهم هم: أبناء الزنا، أي نتاج «العلاقة غير الرضائية» أحيانا في حالة الاغتصاب، وإن كان جزء أساسي منها «رضائيا» بين طرفين أحدهما مخادع والآخر منخدع. أما المثلية فمدلولها هو الشذوذ واللواط والسحاق. إذا كانت المؤسسة العسكرية تختلق لها دوال جديدة ناعمة لتسويغ سياساتها ضد المجتمعات والدول التي لا ترضخ لسياستها بهدف تدميرها وتركيعها، نجد ما صار يسمى «جمعيات المجتمع المدني» تناضل ليس من أجل فهم هذه الظواهر، والبحث عن حلول لها، تعمل على تكريسها وشرعنتها. وكل ذلك تحت مدلول «حقوق الإنسان».
لا أحد يعترض على دال الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية. والمجتمع العربي الإسلامي في أمس الحاجة إلى الحرية والكرامة، وضمان حقوقه وعيشه الكريم كمواطن، وإلى ممارسة الديمقراطية الحقيقية لا المزيفة، من أجل مواجهة الفقر والأمية والتبعية للاستعمار الجديد، لكن حين تتلبس هذه الدوال الناعمة مدلولات صلبة لا مقصد لها سوى تهميش المطالب الحيوية والأساسية التي يعاني المواطن العربي من فقدانها، بل وإسكاتها وقمعها بكل السبل، والتركيز على مطالب فئوية وجعلها بديلا وتحتل الصدارة في المطالب، فليس لها من معنى في رأيي سوى خلق صراعات هامشية بين طوائف ترى دوالها ألطف من غيرها.
كاتب من المغرب