هذا كتاب رائع عن المخرج المجدد في السينما المصرية داوود عبد السيد، صدر عن دار ريشة للنشر، وكتبه الناقد محمود عبد الشكور، المتيم بالسينما والأدب معا. وله فيهما أعمال مثل «يوسف شريف رزق الله عاشق الأطياف» و«سينمانيا» و»سينما محمد خان.. البحث عن فارس» و«ذاكرة الظلال والمرايا.. دراسات في أدب محمد ناجي» و«كنت صبيا في السبعينيات» وغيرها، فضلا عن مراجعاته الدائمة للإنتاج الأدبي والسينمائي في الصحف.
جذبني من زمان تنقله بحب بين السينما والأدب، وحين وجدت أنه أصدر هذا الكتاب بدأت فيه لقيمة داوود الفنية وقيمة كاتبه. أعرف أن داوود عبد السيد ومخرجين مثل خيري بشارة ومحمد خان وعاطف الطيب ورأفت الميهي، تأثروا كثيرا، بسينما المخرج المؤلف التي بدأت في فرنسا في الخمسينيات من القرن الماضي، وانتقلت منها إلى العالم. كان ما شغلني بعض الوقت هو قلة أفلام داوود عبد السيد، تسعة أفلام روائية طويلة وثلاثة أفلام تسجيلية، لكنني أدركت مبكرا أنه لا يجري وراء الإنتاج كهدف، فهو يختار بدقة ما يفعل، فضلا عن أنه متابع وقارئ جيد للإنتاج الروائي يختار منه أيضا. وجدت في الكتاب ما يفسر لي ميل داوود عبد السيد إلى الأدب فقد كانت قراءته صبيا لقصص الخيال مدخلا إلى السينما. باعتباره من مدرسة المخرج المؤلف فهو يكتب السيناريو بنفسه، ماعدا فيلما واحدا هو»أرض الأحلام» الذي كتبه هاني فوزي، وكانت البطولة لفاتن حمامة، وتم إنتاجه عام 1993. لماذا يكتب داوود سيناريوهات أفلامه بنفسه؟ لانه يرى أن كتابة السيناريو لا تختلف عن الإخراج. يتقصي محمود عبد الشكور ذلك من خلال أحاديث داوود عبد السيد نفسه. وكما يقول داوود «بالنسبة لي لا توجد خطوط فاصلة بين السيناريو والإخراج، العملية متداخلة، فكتابة السيناريو هي عملية إخراج، وبالتالي أنا حين أكتب السيناريو أكون قد حددت نظريا أشياء كثيرة في أسلوب الإخراج وتأتي مرحلة الإخراج كتنفيذ لتصوري للفيلم».
داوود عبد السيد من مواليد عام 1946 بعد الحرب العالمية الثانية وعالم جديد يتشكل وكانت أسماء مثل خيري بشارة وعاطف الطيب ورأفت الميهي، أبناء مرحلة وعي واحد عاشوا أحلام ثورة يوليو/تموز صغارا وشبابا، ثم كان الانكسار بهزيمة 1967 ثم كان الانقلاب على كل شيء مع أنور السادات، وما هو معروف مما جرى في مصر واستمر. كما يقول محمود عبد الشكور هو جيل الأحلام الكبرى والخيبات العظيمة والتحولات العبثية. شكلته بيئته في مصر الجديدة وهو من مواليد شبرا، ووجد تعليما أعرفه جيدا فلقد عشته، فكم كان فيه من تنمية لقدراتنا. ولعبت أمه ناظرة المدرسة دورا عظيما في تنشئته. كان أول أفلامه التسجيلية، وأولها عموما، عن التعليم، وهو «وصية رجل حكيم عن شؤون القرية والتعليم» عام 1976 أجراه في قرية لا يذكر اسمها، كأنها دلالة على غيرها، وأهدى الفيلم لطه حسين صاحب دعوة مجانية التعليم. من البداية داوود في قلب المجتمع وقضاياه، لكن المهم ما يقدمه من فن يبتعد عن المباشرة.
الكتاب رحلة فكرية وفنية ممتعة مع أفلام داوود عبد السيد التسجيلية والروائية، وبينها حديث عن مهندس الديكور أنسي أبو سيف والموسيقار راجح داوود، ودورهما العظيم في تجسيد الأفلام صوتا ومكانا. يبدأ محمود عبد الشكور بالأفلام التسجيلية متتابعة.
يحكي محمود عبد الشكور كيف أحب داوود السينما صدفة حين ذهب إلى ستوديو جلال مع ابن خالته، ومشاهدة فيلم «أورفيوس الأسود» في سينما نورماندي، وهو فيلم من إخراج مارسيل كامو، وحصل على جوائز عالمية كبيرة فتقدم إلى معهد السينما ليكون في دفعة التخرج الخامسة، ومعه علي بدرخان وخيري بشارة والمخرج التسجيلي حسام علي. إنها الدفعة التي تخرجت بعد هزيمة 1967 بشهر، لكنهم رغم الألم وربما بسببه قرروا بناء عالم آخر. عمل داوود مساعد مخرج لمخرجين كبار مثل، كمال الشيخ ويوسف شاهين، لكنه لم يحب عمل المساعد لأنه، كما يقول، عمل إداري وتنظيمي وليس إبداعيا. أحب أفلام توفيق صالح بجرأتها وأفلام فيلليني وكوروساوا وأنغمار برغمان وعشق فيسكونتي أكثر من غيره، كما أحب شادي عبد السلام، وهكذا ترى أنه منذور للتجديد والجرأة والمغامرة.
سيناريوهات داوود كانت تجد مكانها في الدرج أكثر من الحياة لأنه غير متسرع، فضلا عن مشاكل الإنتاج الكثيرة، ورحلة مع المشاكل التي واجهته وصبر عليها. وظيفة الفيلم أو السينما أو الفن، كما رآها داوود ورأيناها في أفلامه، ليست أيديولوجية ولا تجارية، فالفن ليس للفن وأيضا ليس للخطابة، فالهدف من السينما أن يدخل الفيلم وجدان الناس ليمنحهم خبرات إنسانية وجمالية، وإذا كان من تغير يحدث في داخلهم فهو على المدى الطويل، فيصبحون أكثر إنسانية وفهما للآخر، وهذا ما أقوله دائما، فالفن الجميل يصنع إنسانا سوياً. لا يعمل لحساب المتفرج لكن لحسابه هو، فالفن يبدأ بدافع ذاتي، ويكون الشكل والمضمون من إبداعه، ويكون الرأي بعد ذلك للجمهور، رغم ذلك فهو بسعادته من وصول أفلامه للجمهور لم يكن سعيدا في عدم وصول فيلمه «البحث عن سيد مرزوق» للجمهور. رأى أنه كان عليه أن يوصل الفكرة بشكل أبسط، بينما يرى محمود عبد الشكور، أن الشكل الذي لا يعبأ بالعلاقات السببية في الفيلم كان مناسبا تماما للفكرة، فالبطل داخل كابوس حقيقي.
داوود عبد السيد لا يغريه نجاح فيلم مثل «الكيت كات» فيقول عنه أنه رديء وأنه يكرهه ليتحرر ويتخلص من سجن الفيلم، ومن سيطرة نجاحه على تفكيره، فطريق الإبداع والتجديد لا بد أن يظل مفتوحا.
الكتاب رحلة فكرية وفنية ممتعة مع أفلام داوود عبد السيد التسجيلية والروائية، وبينها حديث عن مهندس الديكور أنسي أبو سيف والموسيقار راجح داوود، ودورهما العظيم في تجسيد الأفلام صوتا ومكانا. يبدأ محمود عبد الشكور بالأفلام التسجيلية متتابعة. فبعد فيلم «وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم» يأتي فيلم عن الفنان حسن سليمان بعنوان «العمل في الحقل» عام 1979، وفيلم ثان عن الفنان التشكيلي راتب صديق وزوجته النحاتة المتميزة عايدة شحاتة عنوانه «عن الناس والأنبياء والفنانين» عام 1980. هناك توثيق أجل، لكن هناك أسئلة عن الفن والتمرد لتكون للفنان ريشته وحده. لا يقع داوود في كليشيهات وشعارات ويبحث دائما عن التفرد حتى في أفلامه التسجيلية. وهذا التفرد هو الذي كان وراء أفلامه الروائية التسعة التي يتناولها محمود عبد الشكور بالبحث والتحليل في السيناريو والصورة والموسيقى والديكور والأداء وغيرها. «الصعاليك» الذي كتبه وأخرجه داوود عام 1985 ثم «البحث عن سيد مرزوق» عام 1991 ثم «الكيت كات» عن رواية «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان الذي جعل فيه الشيخ حسني شخصية الفيلم الرئيسية على عكس الرواية، فأخرج لنا عملا لترويض الحياة القاسية، سواء بالضحك أو الغناء، أو بعالم مواز يديره هو دون شريك. الشيخ حسني طبعا. في كل فيلم يقف محمود عبد الشكور عند المشاهد المتفردة، والأمر نفسه في «أرض الأحلام» ثم «سارق الفرح» عام 1994 عن قصة لخيري شلبي، حيث الأحلام تقهر العجز و»أرض الخوف» والمأزق الوجودي للبشر، وهو في رأي الكاتب وهذا صحيح، من أهم وأنضج ما يمكن أن يندرج تحت عنوان دراما الأسئلة الكبرى، التي ظهرت من قبل في أفلام مصرية مثل «اللص والكلاب» و»الشحاذ» و»الطريق» وغيرها، كما ظهرت في العالم أيضا وفي مصر من أفلام استلهمت من فاوست غوته. ثم يأتي فيلم «مواطن ومخبر وحرامي» والفوضى التي تصل إلى حد العبث عام 2001 فتغيير الفوارق الطبقية صار أشبه بالتواطؤ، ثم «رسائل البحر» عام 2010 وأخيرا «قدرات غير عادية» عام 2015 بحثا عن إنسان مختلف. كانت متعتي بالقراءة للكتاب قرينة لاستعادة مشاهداتي للأفلام، حتى كدت أترك المقال وأعيد مشاهدة الأفلام على الإنترنت.
روائي مصري