عناية جابرإنتفاضات العرب من تونس واليمن مــــروراً بمصر وصولاً الى سوريا لم تعد تثير شهية الجمهور الواسع. العامة غير متحمسة بعد كل ما رأته وما تزال تراه كل يوم من ممارسات فوضوية تطيح بالإستقرار وبكل شروط الحرية وتداول السلطات. العامة حصدت الخيبة من وعود التغيير بغد أفضل. والنخب ليست في وضع افضل من العامة. فإذا كانت العامة حصدت الخيبة فالنخب حصدت الإحباط.في مصر التحرك مستمر والصراع كذلك. لكنه يشهد اليوم بالتأكيد تفاوتا كبيرا وتراجعاً واضحاً عما كانه في الأوقات السابقة. التحرك يتفتت وينحصر بمدن وأحياء دون الأخرى. قيادات المعارضة تبدو وكأنها تائهة في صحراء ما تريد. تتردد في قيادة المعركة التي يتابعها الناس بما توافر من وعي. في تونس الوضع ليس بحال أفضل. أما في اليمن حيث انتهت المرحلة الأولى بتسوية قبلية شاركت فيها القبائل المحيطة فتبدو الحال أقرب الى تحضير الماضي-التشظي- منها الى تحضير المستقبل. أما في سوريا فالوضع أعقد بكثير ويشير الى تقدم الحرب الأهلية على ما عداها من شعارات واعدة.الكل محبطٌ إلا قلة بينهم لا أدري من أين تأتي بكل هذه الطاقة لكي تتحدث بتفاؤل عن ألم المخاض وعذاباته ولكي تحدثنا عن تجارب الشعوب الاخرى التي عاشت عقوداً طويلة من عدم الإستقرار قبل أن تستقر على النظم الديمقراطية التي نعرفها اليوم في الغرب. قلة متشبثة بالتفاؤل- لنقل- تعدنا بالخير العميم لكن ليس قبل عقود طويلة.قلّة مصرّةٌ على أننا في مرحلة تشبه مرحلة الثورة الفرنسية في بداياتها. تلك الثورة التي شهدت تقلبات هائلة طيلة قرنين من الزمن قبل أن تصل الى ما نراه اليوم من دولة حق وقانون ومواطن وانتخابات ديموقراطية وتداول للسلطة. قلّة مصرّةٌ على منح التاريخ فرصته مهما كانت التضحيات ومهما طال الزمن. قِلَة ثقتها بالتاريخ عمياء. على أن مقارنة بدايات الثورة الفرنسية مع ما يجري عندنا فيه بعض المبالغة ربما. فالثورة الفرنسية لم تقم في ظروف العولمة والصراع العنيف بين دول كبرى على السيطرة على موارد الدول الباقية وعلى أسواقها وعلى الممرات المائية والبرية. لم يكن يومها توجد امبراطوريات إقتصادية متنافسة الى الحد الذي نشهده حالياً. ومن بديهيات الأمور أن تكون طبيعة الثورات الآن مختلفة جوهرياً عما سبقها تبعاً لاختلاف طبيعة تركيب العالم الحديث. أن تبني دولتك اليوم غيره في القرن الثامن عشر. أن تنظم حياتك الداخلية لم يعد ممكنا فقط إنطلاقاً من الداخل كما لو كان في جزيرة نائية عن صراعات الكون وأطماع الأقوياء فيه. معنى أن نتجنب طرح هذه المسألة هو إما أننا لم نلحظ هذا البعد الأساسي في تحليلنا، وتلك كارثة في الرؤيا السياسية والتخطيط، وإما أننا ندير المعركة وكأن الهيمنة الخارجية غير موجودة ويمكن البناء فقط على مشروع داخلي لدولة ديمقراطية بالرغم من تبعية هذه الدولة لهيمنة الخارج الإقتصادية والعسكرية والسياسية. أي بناء دولة ديمقراطية لكن غير حرة. لكن إذا علمنا أن الديمقراطية هي التفضيل، من قبل مواطنين، بين عدة خيارات وطنية شاملة فماذا يبقى للشعب من سيادة ومن خيار إذا حُرِمَ بالمبدأ والأساس من قدرته على إدارة موارده وسياسته وعلى إعداد موازنته؟ من جهة ثانية فإن الثورة الفرنسية لم تولد من عدم. فلقد سبقها، على حد علمنا، حركة تنويرية فكرية عظيمة قامت بتفكيك خطاب النخبة الملكية الكنسية الحاكمة وأرست قواعد التفكير الحديث القائم على العقل والعقلانية. كما شكلت إطاراً حقوقيا وفلسفياً لجميع أشكال الدولة الجديدة الناشئة. كان لا بد من مفكرين كبار ذوي وزن من أمثال فولتير ومونتسكيو وروسو وديدرو وغيرهم الكثير لكي ينتزعوا الشرعية الفكرية من أنطوان لوكلير، مطران باريس قرضاوي الفرنسيين يومها- ومن كل أقطاب المشروعية الدينية والكنسية القديمة. الحركة هذه لم تتميّز إذن فقط بولادتها قبل الثورة بل في ابتداعها مناهج تفكير ثورية جداً تقوم على العقل لا على الإيمان والنقل، وخصوصاً في تأطير الوجه الحقوقي والدستوري للثورة. وإذا سلمنا، جدلاً، بوجود هذه الحركة التنويرية في ربيعنا فهل هي تنازع اليوم ‘مطران باريس’ العربي على مشروعيته الفكرية أم تسير وراءه؟ الى هذا وذاك فإن الثورة الفرنسية لم تولد فقط من إرادة الناس الطامعة بالتخلص من الطغيان بل أيضاً وخصوصاً للتخلص من الشروط الإجتماعية والإقتصادية المزرية التي كان يعيشها الفرنسيون والتي كانت تمنع وتعيق نشوء الصناعة القادرة على توحيد البلاد وخلق قيم اقتصادية كافية لإطعام الجموع. فحتى عام 1789 وقبل الثورة بقليل جرت انتخابات المجالس العامة وأظهرت تعلق الشعب الفرنسي حتى ذلك الحين بالملكية لكن مع المطالبة فقط بتغييرات إجتماعية. قبل ذلك وفي عام 1774 حاول وزير المالية تورغو الذي جاء به لويس السادس عشر لكي يحل مأزق المالية العامة أن يحرر الصناعة من القيود القانونية لكنه فشل واُقيل بسبب المقاومة التي واجهها من قبل المحظيين والمهيمنين على مقدرات البلاد الإقتصادية. آلة البخار كانت في طريقها العلمي الى الإبتكار وتثوير الماكينة الصناعية والإنتاج. كانت البورجوازية صناعية وثورية لا ريعية ورجعية. كل شيء لا يشبه كل شيء للاسف. الثورة الفرنسية لم تنشأ إذن في ظروف تشبه ربيعنا في أي شيء سوى الفوضى والإقتتال الأهلي. فهل يكفي ذلك لكي نصاهرهما؟ الدخان المتصاعد عندنا ليس من ‘أبخرة المصانع’ حتى نتفاءل بخلق الطاقة، هو دخان المباخر ليس إلا. فمن أين يأتي المتفائلون بكل هذه الطاقة ؟ qlaqpt