ربما تكون المصادفة الوقتية وحدها، هي التي جمعت بين عودة جمهور انتفاضة 25 أكتوبر/تشرين الأول العراقية للميادين، ووفاة عزت الدوري الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، كانت عودة الانتفاضة متوقعة بمناسبة مرور عامها الأول، ومع انسداد الأفق في العراق، بينما بدت وفاة الدوري (78 سنة) كخبر قديم، فقبل خمس سنوات، أعلنت السلطات العراقية قتل الدوري، ثم سرعان ما تبين كذب الخبر، وظهر الدوري في تسجيلات بعضها مصور، كان آخرها في إبريل/نيسان 2019، وإلى أن أعلن حزبه عن رحيله في 26 أكتوبر 2020، وبعبارات فخمة، في بيان صوتي مقتضب على مواقع التواصل الاجتماعي، تتحدث عن الدوري الذي «ترجل عن صهوة جواده» وفي بلده العراق «أرض الرباط والجهاد».
وقد كان الدوري كما هو معروف نائبا للرئيس صدام حسين، وتولى قيادة «حزب البعث» بعد إعدام صدام في 2006، وظل متواريا عن الأنظار لمدة 17 سنة، بعد احتلال أمريكا للعراق، ولم تنجح القوات الأمريكية في اصطياده، ولا نجحت عصابات التغول الإيراني، الذي أعقب الغزو الأمريكي، لم يستطع المطارودن جميعا الوصول إليه، واكتفوا بترديد روايات ركيكة عن هروبه إلى دولة عربية، أو أخرى، وإلى أن انفك اللغز ببيان حزبه عن رحيله في أرض العراق، ولم تكن مهمة الدوري سهلة أبدا، فقد قاد حزبه في زمن محنة كبرى، كان عنوانها الأبرز ولا يزال، هو «اجتثاث البعث» الذي جعلوه هدفا رئيسيا منذ زمن الحاكم الأمريكي للعراق بول بريمر، وما جرى بعدها من محاكمات هزلية ملوثة، انتهت بإعدام أغلب قادة الصف الأول من حزب صدام، وحلّ الجيش العراقي وهيئات التصنيع العسكري، ومطاردة كل كوادر الحزب العسكرية والعلمية والمدنية، واغتيال الآلاف من عناصر الحزب، وانشقاق فئة تابعة لحزب البعث السوري، وكان على الدوري، أن يعيد تنظيم الحزب في ظروف حصار قاتل، وفي ظل مرض «سرطان الدم» الذي ظل يلازم الرجل، وكانت آثاره بادية بوضوح على وجهه المنهك، لكن الرجل فعلها بامتياز، وقاد مقاومة وطنية مسلحة واسعة للاحتلال الأمريكي، أوقعت آلاف القتلى من الجنود الأمريكيين، وعلى نحو لم تجربه واشنطن منذ حرب فيتنام.
وساعدت الدوري طبيعته المدربة على الكتمان والتخفي، ثم ميوله الدينية الصوفية، فقد جلب إلى جوار منظمات البعث، ما يعرف بجيش «النقشبندية» والأخيرة طريقة صوفية واسعة الانتشار في العراق، وأقطار المشرق العربي عموما، توثقت صلاتها بالبعث مع حملة صدام الإيمانية، التي تداعت فصولها منذ بداية تسعينيات القرن العشرين، وكان الدوري أبرز وجوه الحملة، كان مسؤولا عن مكتب الجماعات الدينية في الحزب، وفي السنوات الأخيرة، خفت صوت المقاومة البعثية والنقشبندية، خصوصا بعد اجتذاب «داعش» لعدد من ضباط صدام حسين، وشبهات أحاطت بموقف الدوري نفسه من ظاهرة «داعش» الإرهابية بامتياز. وقد ثار التساؤل بعد وفاة الدوري عن خليفته، وأيا ما كان الاسم، فقد لا يبدو مهما، إلا من زاوية احتفاظ «البعث» برايته، وبهرمه التنظيمي المتماسك، رغم ضراوة ووحشية الضربات المتلاحقة، فأن تكون بعثيا، يعني أن تقتل فورا في العراق اليوم، فلا دولة ولا سلطة ولا قانون، بل مراعي قتل مفتوحة، هلكت فيها أرواح مئات الآلاف بل ملايين العراقيين، وتوالت مجازرها وقت الانتفاضات وبدونها، وفي انتفاضة أكتوبر 2019 المتصلة، سقط عشرات الآلاف بين قتلى وجرحى، وجرى اتهام حزب البعث المحظور ـ المجتث رسميا ـ بتدبيرها، رغم أن الانتفاضة جرت وتجري في مراكز التوزيع السكاني الشيعي، من بغداد في الوسط إلى البصرة في الجنوب، وكتمرد وطني عارم على الذين يحكمون باسم الشيعة، وباسم مظالم الشيعة، تحت حكم صدام، لكن جيل الانتفاضة قلب الموازين، وبدت صرخاته متشحة بالحنين الجارف إلى زمن العراق القوي على عهد صدام حسين، بل رفعت لافتات تترحم على اسم «الشهيد» صدام، فقد لا يهتم المنتفضون العراقيون اليوم بقصص الديكتاتورية والديمقراطية، ولا باتهامات الدم المنسوبة لصدام حسين وحزب البعث، وقد بدت حكاياتها كألعاب أطفال، قياسا إلى فيضانات الدم التي أغرقت العراق بعد صدام، وفي ظل ما قيل لهم إنها الديمقراطية والحرية وتداول السلطة، فيما كاد العراق نفسه كوطن يزول عن الخرائط، وهو ما جعل شعار الانتفاضة الأول «نريد وطنا» فكل كوارث الفساد والقتل، الذي شهده ويشهده العراق عبر 17 سنة مضت، ما هي إلا عوارض لمرض أصلي، هو غياب العراق نفسه تحت ركام الاحتلالين الأمريكي والإيراني، وهو ما قد يعيد بريقا إلى أصول دعوة «البعث» وقد كان تجسيدا جامعا لمعنى الوطنية العراقية العروبية، وهو ما قد يصح أن تركز عليه قيادة حزب «البعث» الجديدة، وأن تتخلى عن النظرة إلى الحزب كتنظيم عسكري، أو شبه عسكري، وأن تستعيد سيرة «البعث» الأولى، قبل أن تتحول قيادته العليا إلى جماعة سنية، أو شبه سنية، ومن تكريت مسقط رأس صدام، أو ما حولها على طريقة عزت الدوري المنحدر من بلدة «الدورة» بالقرب من تكريت.
ضيق الأفق قد لا يتيح لحزب البعث دورا في عملية بعث العراق من جديد، فهو بحاجة لإعادة تأسيس، وتوسيع قاعدته وقيادته
والعراق اليوم بحاجة إلى بعث جديد لوطنيته الجامعة، وقد يمكن لحزب البعث أن يقوم بدور، يبدو مؤهلا له أكثر من غيره، ولكن بشروط مرئية لمراقبي المشهد العراقي، أهمها ـ بالطبع ـ مبادرة الحزب بنقد ذاتي شامل، قد لا تستطيعه قيادة تقليدية عسكرية، ثم بفتح تكوين الحزب على فسيفساء التكوين العراقي، والعمل في أوساط الشيعة بالذات، وقد ولد الحزب في العراق على يد مثقفين بارزين من الشيعة، فمؤسس الحزب بداية خمسينيات القرن العشرين هو فؤاد الركابي، ومن مسقط رأسه في الناصرية جنوبا، وقد تحول الركابي عام 1964 إلى الخط الناصري، وقتل بطعنة سكين في سجون صدام عام 1971، وخلف الركابي في قيادة الحزب رمز شيعي آخر، هو علي صالح السعدي، قبل أن تصعد جماعة أحمد حسن البكر فصدام، وقد استمر حكمها للعراق والبعث حتى إبريل 2003 مع احتلال بغداد، وتولى عراقيون شيعة مناصب كبرى في دولة صدام، لعل أشهرهم سعدون حمادي وحمزة الزبيدي وسعيد الصحاف.
لكن تأثير ودور الشيعة كان قد تضاءل في قيادة الحزب، التي بدت أكثر فأكثر مركز استقطاب سني، وهو ما سهل تغول التأثير الإيراني الخميني في وجدان الشيعة، وانتهى بسيطرة أحزاب طائفية موالية لإيران في غالبها، خصوصا بعد الحرب الإيرانية العراقية المهلكة، طوال ثمانينيات القرن العشرين، التي بدا فيها الجيش العراقي موحدا بلا تشققات طائفية، لكن المجتمع العراقي كان له وضع آخر، وتزايدت فيه الشروخ الطائفية، وبدا حزب البعث «الصدامي» مطاردا للشيعة مستريبا فيهم، وبالذات بعد قيادة صدام لحملته الإيمانية في التسعينيات وما تلاها إلى لحظة النهاية. وبالجملة، فنحن بصدد وطن عظيم ضاع أو كاد، وتأمل أجياله الجديدة في بعثه للوجود مجددا، وبانتفاضات روح وصبوات إلى بعث العراق وطنيا جامعا كما كان، بعد محن المحاصصة والطائفية، واللصوصية والاحتلال، والهيمنة الأجنبية المتصلة، وربما لا تكون من قيمة وطنية كبرى للحفاظ على تنظيم حزب «البعث» الداخلي، فالحاجات الموضوعية أكثر إلحاحا من الاعتبارات التنظيمية الذاتية، وضيق الأفق قد لا يتيح لحزب البعث دورا في عملية بعث العراق من جديد، وربما يكون الحزب في احتياج إلى إعادة تأسيس، وتوسيع قاعدته وقيادته، على أساس من الشمول العراقي، ولو تطلب الأمر تغيير اسم الحزب ذاته، وتلك مهمة تحتاج إلى قيادة من نوع مختلف، وإلى خيال طليق من قيود العادة، فقد صمد الحزب في وجه المجزرة، وحمى ما تبقى من تنظيمه وشبكة اتصالاته، وكان ذلك جوهر دور عزت الدوري، الذي رحل تاركا نواة تنظيم صلبة، يمكنها أن تتحول إلى بذرة جديدة، في تربة غضب عراقي شعبي، يتطلع إلى راية وطنية عراقية موثوقة، تفكك هيمنة الأحزاب الطائفية السنية والشيعية المفلسة، وتقود كفاحا سلميا عنيدا، يعيد تشكيل خرائط العراق السياسية، بعيدا عن الهيمنتين الأمريكية والإيرانية، وعن عمليات شراء الرؤوس بحقائب المال الخليجي، المعادي تاريخيا لدعوة القومية العربية، والمتوجس من إعادة بعث الوطنية العراقية الجامعة، فليس في العراق اليوم من حزب جامع لعربه، وبغير مفاصلات مميتة بين شيعته وسنته، وقد يمكن لحزب البعث نظريا أن يقوم بالدور، وبشرط الانغماس الكلي في دراما انتفاضات استعادة العراق لأهله وطبعه العربي.
كاتب مصري
يقول المتل ما تعرف قيمتي الا بعد ان تعرف غيري
كعراقي شهد حقبة حكم البعث في العراق و رفضت الإنضمام للحزب ليس رفضاً لإفكاره و لكن لممارسات أفراده ، أشعر أنها كارثة كبرى ما إنتهى إليه حكمه و البلد .
الفاجعة أن الحزب كان يمتلك جميع المقومات المادية للنجاح و تحقيق إنجازات كبرى ليس للعراق فقط بل و ما حوله…..غير أنه كان يفتقد للخيال العبقري الخلّاق لصنع آلية تتّفق مع الظروف المحلية و الإقليمية المحيطة به لتحقيق أهدافه الكبرى . القيادة في العراق و لا شكّ كان على رأسها قائداً للرجال، إختصر في شخصه ، غالباً للضرورة أحكام ، الحكم و حتى العراق ، سقطت في فخ الحرب مع جار كبير ، و كان يجب تفادي تلك الحرب . ثم بعد ذلك غزا بلد عربي صغير مجاور و وظّف مبادئه لتبرير ذلك متجاهلاً النظام العالمي الجديد الذي قام على أنقاض العالم القديم عقب الحربين العالميتين.
ماذا سيؤول إليه أمر العراق ؟….لن يعود كما كان!
الديكتاتوريات العسكرية والبوليسية سبب تدمير العراق وسورية ومصر واليمن وليبيا وغيرها. الديكتاتور يظن أن قهر الشعب وقبوله بالصمت هو الاستقرار والأمان، ولكنه ينسى أن الاستبداد يولد انفجارات تضرب في كل الاتجاهات.لعن الله العساكر المجرمين ومن يؤيدهم ومن يدافع عنهم ومن يعيش على فتاتهم.