بدا الغزو الأوكراني لمقاطعة كورسك الحدودية الروسية مفاجئا بكل المعاني، وانقلابا دراماتيكيا في مسار الحرب الجارية منذ نحو ثلاثين شهرا، فقد نجحت قوات النخبة الأوكرانية في نقل الحرب إلى الداخل الروسي، ولم تعد المقاطعات الأوكرانية الأربع، دونيتسك ولوغانتسك وزاباروجيا وخيرسون، وحدها مسرحا للحرب المتطاولة، وقد شهدت شهورها الأخيرة تقدما مطردا للقوات الروسية، وقضما متسارعا للقرى والبلدات والمدن، وبالذات في منطقة الدونباس، وفي مقاطعة دونيتسك على وجه الخصوص، ومن دون أن يتغير الإيقاع الحربي على جبهة طولها ألف كيلومتر وأكثر في الداخل الأوكراني، حتى بعد مرور عشرة أيام على بدء الهجوم الأوكراني المفاجئ في مقاطعة كورسك الروسية الملاصقة لجغرافيا مقاطعة سومي الأوكرانية.
ولعل أول ما لفت النظر في حوادث التوغل الأوكراني على جبهة كورسك، أن القوات الأوكرانية تقدمت بسرعة مذهلة، وكأنها تمضي في نزهة خلوية، ومن دون مقاومة تذكر من قبل القوات الروسية، التي كانت غائبة بالفعل عن ميادين كورسك، اللهم إلا من عناصر حرس حدود فردية التسليح، لم يكن بوسعها أن تصمد في مواجهة غزو مقتحم منظم بالدبابات والمدرعات الأمريكية والألمانية، فيما لم تكن هناك ولا جاءت قوات روسية مسلحة من أصله، وهو ما يفسر طبيعة الخسائر البشرية التي أعلنها الروس، فقد قالوا إن عدد القتلى 12 مدنيا في أسبوع الغزو الأوكراني الأول، إضافة إلى 121 جريحا بينهم عشرة أطفال، بينما بدا الجيش الروسي كدب نائم في غفوة الغياب، وبدت أجهزة الاستخبارات الروسية العسكرية غائبة هي الأخرى، وثبت فشلها الذريع في توقع الهجوم الأوكراني، رغم كثافة الحشود قبلها في مقاطعة سومي الأوكرانية، على الجانب الآخر من الحدود، أو قد تكون الاستخبارات الروسية حذرت كما قيل، لكنها لم تجد أحدا يستمع أو يحتاط في رئاسة أركان الجيوش الروسية، التي يتولاها الجنرال فاليري جيراسيوف، وهو ابن الأكاديمية العسكرية الروسية ذاتها، التي تخرج منها الجنرال فاليري زالوجني القائد العام السابق الشهير للقوات الأوكرانية، وقد أطاح به الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، وأحل محله الجنرال ألكسندر سيرسكي بتعليمه العسكري الروسي أيضا، الذي لم تظهر له أي كرامات عسكرية منذ تعيينه في 8 فبراير 2024، لكنه كان قائدا للهجوم الصاعق في خاركيف أواخر عام 2022، وقد نجح وقتها في إزاحة سريعة للقوات الروسية إلى جيب صغير شرق مدينة كوبيانسك، ثم تبدت مهاراته أخيرا في خداع الروس، وبدء الهجوم الأوكراني الحالي في مقاطعة كورسك الروسية، وهكذا بدا سيرسكي كأنه جنرال المفاجآت السعيدة للأوكران طبعا، وما من شك في الأثر الفوري لمغامرة سيرسكي، ورفعه الروح المعنوية المنهارة للشعب الأوكراني، وإثبات أن الجيش الأوكراني قادر على إيذاء الروس، والاستفادة من تكاسل البيروقراطية العسكرية الروسية ومركزيتها المفرطة، واستهتارها بقدرات قوات النخبة الأوكرانية المدربة بمعرفة الجيوش الغربية، واستيعابها لتقنيات السلاح الغربى المتطور.
لن تستطيع القوات الأوكرانية، أن تبقي سيطرتها على أرض داخل روسيا في كورسك، ولا استخدام أرض روسية مستولى عليها في مقايضة لاحقة مع الروس، يعود بها كل طرف إلى حدوده الدولية المعترف بها
وقد لا يكون ما جرى ويجري في كورسك الأول من نوعه، فقد سبقته غارات برية متقطعة في مقاطعة بيلجرود الروسية المجاورة، وقيل وقتها، إن قوات من المتطوعين الروس الانفصاليين شاركت في الغارات، تماما كما قيل هذه المرة مع توغل الأوكران داخل كورسك، وهو الأكبر من نوعه، بل لم يحدث شيء من ذلك أبدا منذ عام 1941، حين أقدمت جيوش هتلر على غزو روسيا، ودارت بعدها ملاحم ومعارك ما يسميه الروس بالحرب الوطنية العظمى (1941 ـ 1945)، وكانت نقطة التحول فيها على أرض كورسك ذاتها، حيث جرت ما تعد أكبر معارك الدبابات في التاريخ، وقد عرفت باسم معركة فوس كورسك، التي استمرت لأسابيع منذ 5 يوليو 1943 إلى 23 أغسطس من العام نفسه، وفيها وبعدها، تدحرجت جيوش حملة هتلر (بارباروسا) من هزيمة إلى هزيمة، وإلى أن سبق الروس (السوفييت وقتها) إلى اقتحام برلين، وهو ما دفع مسؤولين روس بتداعى الذكريات إلى تكرار التهديد باقتحام برلين مجددا، بعد مفاجأة الغزو الأوكراني السريع في كورسك، خصوصا مع وجود العربات الألمانية المدرعة ماردر مع القوات الأوكرانية الغازية، وإصابة الهيبة الروسية المفترضة في مقتل، ولو إلى حين، فقد بدا الروس كعادتهم التاريخية المتكررة، يتلقون الضربات المفاجئة، ثم يفكرون في التكيف السريع معها، ومعالجة الأخطاء الفادحة واستيعاب الدروس، ثم يبحثون في الرد وطرق كسب النصر، وتحويل المحن والنوازل إلى منح وفرص حربية، وهو ما يفسر طبيعة الإجراءات الفورية التي اتخذوها، من نوع إجلاء عشرات الآلاف من المدنيين عن مقاطعة كورسك، وعن بيلجرود المجاورة، والبدء بوقف التقدم الأوكراني عند المساحة المستولى عليها، والمقدرة بأكثر من 2% من مساحة كورسك البالغة 190 ألف كيلومتر مربع، وبعدد قليل من سكان لا يجاوزون 440 ألفا، والتركيز أولا على حماية المنشآت الأهم، وأولها المحطة النووية الكهربية غرب مدينة كورسك عاصمة المقاطعة، ومحطة نقل الغاز إلى أوروبا عبر أوكرانيا في مدينة سودجا، التي كانت قوات الغزو الأوكراني وصلت إلى أجزائها الغربية، ولا تزال محطة نقل الغاز تعمل، وتضخ الغاز إلى دول أوروبية عبر أراضى أوكرانيا نفسها، وبعد تأمين السكان والمنشآت الكبرى، وعلى نحو يبدو رتيبا منتظما، يجرى نقل القوات الروسية الخاصة إلى ميادين النار في كورسك، مع الحرص على عدم سحب أي قوات روسية عاملة في أوكرانيا، وبعد إكمال الاستعدادات وحشد القوات المطلوبة، وإعلان حالات الطوارئ في المقاطعات الروسية المحاذية للأراضي الأوكرانية (كورسك وبيلجرود وبريانسك)، ربما تبدأ على ما يبدو عملية حصار وسحق القوات الأوكرانية الغازية، فالشعار الذي يرفعه الروس اليوم، هو أنهم لا يريدون أسرى أوكرانيين جددا، فلديهم ما يكفى ويزيد من الأسرى، وقد بدت رغبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الانتقام ظاهرة ناطقة، وبدا غاضبا في اجتماعات متلفزة عقدت مع مساعديه، ربما تؤذن بإقالات لاحقة لكبار المسؤولين في الجيش وأجهزة الاستخبارات الروسية، قد تجري قبل أو بعد أن تنتهي المهمة العاجلة، التي قد تستغرق أسبوعين أو أكثر، فلا يبدو الروس في عجلة من أمرهم رغم هول المفاجأة، وقد لوح بوتين بحرب إبادة لمن يعتبرهم أوكرانيين نازيين، وهو ما لا يعني بالضرورة، أن يلجأ الروس لاستخدام أسلحتهم النووية التكتيكية فوق أرضهم في كورسك أو غيرها، بل ربما اللجوء لتطوير خطط وأهداف ما يسميه بوتين بالعملية العسكرية الخاصة، ومن دون إجراء تعبئة عسكرية عامة شاملة، أو حتى الإعلان الرسمي القانوني للحرب، فقد يلجأ الروس إلى غزو مقاطعة سومي الأوكرانية المحاذية لمقاطعة كورسك، وبدعوى إقامة منطقة أمنية عازلة فيها، وعلى نحو ما فعلوا ويفعلون في مقاطعة خاركيف الأوكرانية المحاذية لمقاطعة بيلجرود الروسية، وقد يعيد الروس النظر في أهدافهم النهائية داخل أوكرانيا، وعلى نحو لا يقتصر على إكمال السيطرة على المقاطعات الأربع المعلن عن ضمها (دونيتسك ولوغانتسك وزاباروجيا وخيرسون)، وقد تتمدد أهداف الروس جنوبا إلى الاستيلاء على دنيبرو بتروفسك وأوديسا، وقطع اتصال ما تبقى من أوكرانيا بمياه البحر الأسود، ولو استطاع الروس أن ينفذوا ما يخططون له، فقد تصبح مغامرة الغزو الأوكراني لمقاطعة كورسك مجرد حدث معزول، وجملة اعتراض حربية، لا توفر للأوكرانيين ولا للغرب أي ميزة عسكرية أو سياسية ملموسة، فلن تستطيع القوات الأوكرانية غالبا، أن تبقي سيطرتها على أرض داخل روسيا في كورسك، ولا استخدام أرض روسية مستولى عليها في مقايضة لاحقة مع الروس، يعود بها كل طرف إلى حدوده الدولية المعترف بها، وربما لذلك، تكتم واشنطن حماسها لما فعله الأوكرانيون في كورسك، وتدعي أنها لم تكن تعلم، وأن الأوكرانيين يتصرفون من تلقاء ذاتهم، مع أن أهداف الأوكرانيين المعلنة، تبدو مطابقة لأهداف الأمريكيين، ومن بينها زعزعة الوضع الداخلي في روسيا، وإثارة نقمة الشعوب الروسية على حكم بوتين، والسعي لتفكيك روسيا ذاتها، وهو ما لم يتحقق شيء منه طوال الثلاثين شهرا من الحرب الجارية، التي قد يواجه فيها الروس صدمات ومفاجآت ونكسات، على طريقة ما جرى ويجري في كورسك، لكنهم سرعان ما يعودون إلى التماسك، واستعادة الهيبة مجددا، ويعيدون في كل مرة، ما نتصوره تكرارا، يرقى إلى مرتبة قانون العادة الحربية التاريخية، فالروس يهزمون ثم يهزمون، لكنهم ينتصرون أخيرا، فعلوها مع حملة نابليون وحملة هتلر، ويفعلونها اليوم مع حملة أمريكا وحلف الناتو في الميدان الأوكراني.
كاتب مصري