يستمتع الناس بأفكار الخلود والأبدية، ويطلبها البعض بواسطة السفر عبر جهات الأرض، كما لو أن التمكن من المكان يؤدي بنا إلى الاستحواذ على الزمان، وهذا يتطلب الكثير من المال والصحة والعدة للانتقال إلى بلد بعيد. الابتعاد عما يُسمى «دُوار الواقع» فيه فائدة للأدباء والفنانين بصورة عامة، لأنه يساعدهم في اكتشاف قاع مدينتهم الذي داوموا على العيش فيه زمنا طويلا، دون أن تبلغهم بعض تفاصيله. لكن إشادة عَلاقة دائمة مع المكان الصغير، هي سبيل أغلب الناس في البلدات الفقيرة، ولا تعدم أن ترى مثل هؤلاء يعيشون في المدن الكبيرة، ويتحلون بطريقة عيش هادئة وثابتة، دون سفر أو ترحال، ودون فسحة لحياة أخرى مرجوة أو متوقعة.
إنه شأنٌ يجتذب الكثيرين منا، أغنياء وفقراء ومعدمين على حد سواء، وقصة الأديب المصري نجيب محفوظ عندما رفض السفر إلى السويد لاستلام جائزة نوبل، مُوفِدا ابنته بدلا عنه، مثال بسيط على الحياة الهانئة داخل شرنقة يُعد تمزيقها، أو المس بأحد خيوطها إنذارا بكارثة، وكان يحرص على تمتينها وتوثيقها يوما بعد آخر. ثم سُئِل عن سبب رفضه تغيير مكانه ولو لزمن قصير، أجابهم صاحب الثلاثية الشهيرة، والحائز جائزة نوبل باللهجة المصرية:
«لازم أروح عالأهوة -إلى المقهى- كل يوم».
هي عوائدنا وفيها سحر غامض يعطينا شعورا بأننا خالدون خلودا طبيعيا لا يحتاج إلى تفلسف لاهوتي يصدع الرأس. الطريق اليومي والدائم والثابت من البيت إلى المقهى، وإلى محل العمل، والعودة منهما، وأدعوه أنا «درب النمل»، أو «دوارة النمل» بتعبير الشاعر، وهو عبارة عن دائرة بيضاء ترتسم على الأرض وفي الفضاء، فيها جِد في طلب إكسير الخلود، وحظر مجازي لذكر الموت، يحتم على صاحبها السير في خط واحد لا يحيد عنه، وخروجه عنه يؤدي به إلى التيه، كأنه في فلاة. كما لو أن دورة نجيب محفوظ مع طريق الشمس اليومي فعلان متحاينان، سوف يصيبهما الكسوف أو الخسوف إن طرأ عليهما طارئ لا سمح الله، والخطوة هنا ملكية، لا من المُلك، ولكن من السمو. لنستمع لسعدي يوسف:
«للهدوء المبارك هذه الخطوة الملكية
والشرفة العالية
حيث أبصرُ في نبضات الحديقة
دورةَ النمل
أو ذرة الجلنار..»
ذرة الجلنار هي تصوير أو تشبيه أدبي لجُرم الشمس العملاق والهائل، وصورة مكبرة ملايين أو مليارات المرات لدورة النمل (الذر). عندما نطلب الخلود بهذه الطريقة من العيش، فنحن نقلد النمل في رحلته اليومية، كأن نفوسنا غدت مقسومة في تركيبها إلى مجموعات غفيرة من تكتلات من خلايا مدينة في أكثر حدسياتها سموا، إلى عادة متجذرة لدى هذا المخلوق الصغير الذي يدب على الأرض، ويتحدى بما لديه من طاقة في الفكر والعمل البدائيين إرادة الإنسان، رغم أننا ندوسه بأقدامنا المسرعة واللامبالية، لأننا لا نراه ونحن نسير، أو أننا نراه ونسحقه في أثناء المشي متقصدين هذا الفعلَ.
درب النمل يمكن أن يكون يوميا أو أسبوعيا، أو يحدث في كل فصل من السنة، أو أكثر… كنا نرتحل أنا وصديقي محمد نجم نقدي، في يوم الخميس إلى مشوار على الدراجة، على الطريق المؤدي إلى بلدة الكحلاء، القريبة من مدينة العمارة. نأخذ معنا زادا خفيفا، مع الكثير من أفراح وحكايات الصبا، ونجلس على جانب الطريق. نأكل ونحلم ونتأمل الحريق الأزرق في الحقول البعيدة، ونتحدث في أمور كوننا الصغير الذي لا يتعدى البيت والمدرسة. نعود أخيرا عندما تجنح الشمس إلى المغيب، مكتنزَين بسحر الوجود ما يكفينا سبعة أيام، وفي اليوم التالي نعود إلى الحياة التي كنا قد مللناها، نعيشها بانفعال كما لو كانت جديدة.
هنالك ذكريات بعيدة ولا تعني شيئا في حد ذاتها، لكنها تترك انطباعات في النفس أكثر من الأحداث المهمة. ذات يوم التقطت من مكتبتي رواية لهمنغواي، وفي إحدى الصفحات عثرت على بقايا قطعة تين مجفف عالقة منذ زمن قراءتي الأولى للرواية، عندما كنت طالبا في الثانوية، وقد تصلبت واسود لونُها. تحركت إذاك لديّ رغبة في تذوق التين المجفف وأنا أقرأ المشهد ذاته ثانية. غمر عطره فمي وأحسستُ بمذاقه السكري يجتاحني حتى أدق ركن في جسدي، كما لو أن في خلايا الجسد ذاكرة تيقظت في تلك اللحظة، واسترجعت ما جرى لها بتأثير قطعة الطعام قبل أكثر من أربعة عقود. كنتُ أجلس قرب نافذة تطل على حديقة المنزل، وفي تلك اللحظة سقطت ورقة من شجرة مطاط قريبة، وكان سقوطها شبيها بعلامة تشير إلى قوة كامنة في الأشياء التي حولنا، ولا ننتبه لها أو نغفلها عن قصد. تأملت جيدا هذه الفكرةَ، كما لو أنني أحسستُ بالرفاه بوجود هذا الكم الوفير من الأشياء من حولي، لكل منها وجودٌ خاص تحرسه وتمده بالحياة باستمرار قوة كامنة. إن محصلة جمع هذه القوى هي المسؤولة عما يسميه أرسطو «استقلال الحياة» في كتاب (البلاغة)، ويعدها قاعدة السعادة لدى البشر، وبغياب هذه القوى، يصبح المحيط الذي نعيش فيه هشا وعديم الثبات.
أي كلام تسمعه عن السعادة عليك أن تتأكد منه باللمس، فإن كانت حياتنا محكومة بالبحث عنها، فإن أقصر طريق إلى الجنة الموعودة يكون عندما يتشبث الواحد منا بعاداته، ويحاول تقليد الشمس التي لا تفنى أو تموت، لأنها تشرق كل يوم وتغرب، سالكة دورة واحدة لا أكثر. إننا نحصل بسهولة بهذه الطريقة على النعيم الذي يمكن وصفه بأنه خالد، لأنه لا يتغير ولا يتفاوت ولا يموت، ومصدره عشبة جلجامش، الذي كد في طلبها ثم سرقتها منه الأفعى. الأمر المؤكد والذي لم تذكره الملحمة أن كوما من النمل هاجم العشبة في البدء، وحاز قطعة منها، لذا فنحن نسير على هدي النمل عندما نطلب توسيع حياتنا في الجهات الأربع، مع البقاء والعيش في مكان واحد في الوقت نفسه. يشعر الواحد منا عندها بالحرية التي أساسها فراغ البال، لأن الدار والحي والمدينة التي تؤويه اتسعت، وصار لها في مَراح النهار، وتحت ضياء المساء الناعم، حدود العالم المفتوح.
يقول نيتشه: «ليس هنالك أي دور للفكرة سوى كونها تساعد على ولادة فكرة أخرى لدى المتلقي». بإمكاننا، وَفْقَ هذا التصور، استبدال دورة نجيب محفوظ اليومية بمضمون أخلاقي، فيحل الضمير بدلَ طريقة العيش، لا يطرأ عليه بمرور السنين أي تغيير. نحن ننشد المدينة الفاضلة إذن عند تكريس حياتنا لتكون في مدار واحدٍ لا يقبل التغيير. لقد بلغت النملة، هذا المخلوق الصغير درجة من الرقي والاكتمال إلى حد أننا نتخِذ طريقتها في العيش مثالا عندما نفكر في طلب الإحساس بأننا نحيا طاهرين، ونكون من الخالدين. يقول الشاعر جورج سيفيريس: «أواه، لو استطعنا فحسب أن نحب/ ليس مثل الحمام/ بل مثل النمل، من القلب نحب».
ولكنْ، ماذا عن قانون الانتخاب لعالم الطبيعيات والأحياء تشارلز دارون؟ لنقلْ إن هذا الكائن الصغير للغاية يمثل عينة متجاوزة لمسار التطور. كائن مغاير للارتقاء وَفْق سلم الانتخاب الطبيعي، وبإمكانه تهديد قناعاتنا عن السفر والتجوال، ففي حيزنا الصغير الذي نعيش فيه، نستطيع التوسع به وربما بلغنا الآفاق، في ما إذا فكرنا مثل الأديب المصري أن المشوار اليومي من وإلى المقهى هو السبيل الحقيقي والوحيد إلى الخلود.