ما لفتني وجعلني أحبُ دانتي أنه كتب «الكوميديا الإلهية» بدافع الحب وبشغف الشاعر العاشق، (فالحبُ يُحرّك الشمس والنجوم). كما يقول.
وعندي أن للحب من المعجزات ما يجعل النص إلهياً بامتياز، حتى لو لم يقصد الشاعر ذلك مباشرة. ففي قصة (قيس وليلى) مثلاً، في التراث العربي المكتنز بالعشق، ما يكفي لجعل للحب آلهة لا تقلّ (عمقياً) عن الآلهة الإغريقية، التي من الأساطير.
٭ ٭ ٭
تعرفتُ على دانتي في سنوات مبكرة من علاقتي بالكتابة، ففي اتصالي الأول بالمكتبة العامة، بداية الستينيات من القرن العشرين، ما أتاحَ لي اكتشاف الترجمة العربية الأولى المعتمدة، التي أنجزها المصري حسن عثمان، حيث كنتُ وقتها مستغرقاً في إحدى انهماكاتي مشغوفاً بالقراءة، وفي تلك الترجمة تعرفتُ على دانتي وتجربته المتميزة.
٭ ٭ ٭
أظن أنني عندما كتبت كتابي «القيامة» كانت تجربة دانتي في «الكوميديا الإلهية» حاضرةً في خلفية مخيلتي بشكلٍ ما، فعلى الرغم من بعد المسافة الزمنية التي تفصل قراءتي لكتاب دانتي، إلا أن ظروف كتابتي «القيامة» في زنزانة الاعتقال، يفسّر حضور جحيم دانتي ومطهره. وظني أيضاً أن استغراقي في اللهو الشعري باللغة (حروفاً وكلمات وعلاقات) هو أحد العناصر التي كانت تشير للمكتشفات اللغوية التي طفقتُ، منذ ذلك الوقت، في اكتساب الخبرة والمعرفة بلغتي الشعرية، بل إنني في تلك «القيامة» بدأتُ استمتع بالعشق الأدبي للغة، التي لم أزل أكتشفها يوماً بعد يوم. وإذا كان دانتي قد فعل في بنية اللغة الإيطالية ما صنعه من مجترحات جديدة، فلأن إبداع الشاعر يبدأ ويتمثّل في قدرته على الصياغة الجديدة، وإعادة الصياغة المتواصلة للغته في الكتابة، شعراً ونثراً.
٭ ٭ ٭
أعتقد أن كتاب دانتي، سوف يحاكي، في السياق الثقافي العربي، تلك التجارب الصوفية، ذات الخيال النشيط المتحرّر من المتوارثات، وربما هذا هو، أيضاً، ما جعل حضور (الكوميديا الإلهية) فعالاً بدرجات مختلفة من التماهي. وبقيَ هذا الحضور، متفاوت الفعالية، عبر أجيال مختلفة من الكتاب والشعراء العرب، دون أن يستغرق، معظمهم، في مشغل المقارنة وتبادل التأثر والتأثير بين دانتي وأبي العلاء المعري، ففي ذلك، مثلبة ينبغي أن لا تشغل الكاتب عن حقل إبداعه، كما أعتقد، مثلما دانتي المبدع في كتابه كان يعيد خلق الحياة على هواه، وهي طبيعة المبدع، ناقداً الخالق في التراث الديني، كان المعري يفعل الأمر نفسه، فيما يصوغ فكرة (الإسراء والمعراج). فليس بين المبدعين مَنْ يرى غيرَه خالقاً للحياة. وبما أن الثقافة العربية، تراثاً ومعاصرة، تزخر بقصص الحب، المرتبطة بالشعراء هنا وهناك، سنرى العربَ لا يغفلون عما يصقل عواطفهم وجذوة العشق في جنباتهم، ولا بد من أنهم اتصلوا بقصة الحب (الإلهي) في نص كوميديا دانتي. لقد اعتنى كثيرٌ من العرب في هذا الكتاب، بأجوبة سترصد الحب ونقد الخليقة.
٭ ٭ ٭
بعد سنوات طويلة. حوالي الثلاثين سنة الأخيرة، رأيتُ في كتاب لوتريامون «أناشيد مالدرورو» الانعطافة الحديثة لتلك «الكوميديا الإلهية» رأيتُ أيضاً النزوع التعبيري الأبدي لدى مبدعي البشرية، لابتكار المشهد الرؤيوي «القياميّ» الذي تذهب إليه البشرية. فقد رأيتُ في «أناشيد» لوتريامون ومخيلته الجهنمية، ضرباً من إعادة الخلق السديمية التي لا تسبقه جنةٌ ولا تليها.
٭ ٭ ٭
ظني أن التجربة الأدبية الحديثة، في العالم، ما تزال تتعلم من دانتي، أو أنها لم تزل تنهل من مَعينه. وربما كان الولع العربي بكتاب دانتي، يتصل، بالشغف العربي، بما كانوا يسمونه في التراث العربي بـ(الحب العذري) خصوصاً إذا كانوا قد أدركوا مبكراً العشقَ الذي كان يستغرق به دانتي، فيما يسعى للتعبير عن حبه لبياتريس، طوال ذلك الكتاب الضخم، الكتاب المؤسِّس لمرحلة رومانسية جديدة في تاريخ الأدب الإيطالي، ويوشك فيها دانتي على أن يرى في حبيبته رسولة الآلهة، ويعمّدها كذلك، فيما يُمعنُ في مكتشفات الشعر للغة الجديدة في الكتابة الإيطالية.
٭ ٭ ٭
إن تَعلُّق دانتي (شخصاً ونصاً) بالرقم 9، يجعلني في السياق الروحي نفسه، أشعر منذ بدايتي بأنه رقمي الذي أحب، دون أي تفسيرات تعينني على فهم ذلك الأمر الغامض العذب. غير أنه حدثٌ يشدّ علاقتي، أو تقاطعي مع الشاعر الإيطالي وكتابه.
٭ ٭ ٭
الغريب أن الأهوال التي يصورها دانتي في كتابه، ستكون، عبر التاريخ البشري، قياساً لمعاناة الإنسان من جرّاء الحياة، وهي بمثابة دروس متتالية متراكمة، لا تتعلم منها البشرية، كما لو أن (كائنات الغابة لا تزال تعيث فساداً في الأرض). من جهة أخرى، تتجلى لنا، في المشاهد والسرد الشعري، تلك الطاقة الشعرية الفعالة التي يتألق بها شاعرٌ في القرن الرابع عشر الميلادي، فيضيف إلى الإبداع الإنساني نصاً، من شأنه صقل المخيلة الإنسانية عبر العصور اللاحقة.
٭ ٭ ٭
وتجوز لي، هنا، الإشارة الثقافية المتعلقة بإحساسي العاطفي تجاه كتاب دانتي هذا، حيث تمرُّ عليّ بعضُ الأوقات يختلط في ذهني الأمر، بين مشاهد وأساطير كتاب (الكوميديا الإلهية) وبين العديد من مشاهد وحكايات الأساطير في كتاب (الإلياذة) لهوميروس.
كتب هذا النص استجابة لمشروع إصدار كتاب تذكاري لمناسبة مرور 100 عام على دانتي.
من الجامعة الكاثوليكية في إيطاليا
شاعر بحريني
[ما لفتني وجعلني أحبُ دانتي أنه كتب «الكوميديا الإلهية» بدافع الحب وبشغف الشاعر العاشق، (فالحبُ يُحرّك الشمس والنجوم). كما يقول] انتهى الاقتباس
قبل كل شيء، هنا، دانتي كتب «الكوميديا الإلهية» بتأثير مباشر أو غير مباشر من «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري، حتى قبل أن يكون بأي دافع نفسي أو حافز عاطفي آخر، كمثل دافع الحب وشغف الشاعر العاشق، وحتى لو قال هو ذاته في سياق مغاير (فالحبُ يُحرّك الشمس والنجوم) !!؟
بدافع الحب وبشغف الشاعر العاشق، (فالحبُ يُحرّك الشمس والنجوم). كما يقول.
اتفق تمامًا مع رأي الأخ باقر على أنّ دانتي كتب كوميدياه متأثرًا برسالة الغفران لأبي العلاء المعريّ.