درعا المالكي وعين رمانته: متى يتعظ المتجبرون؟

حجم الخط
0

(1) أبريل هو أقسى الشهور، كما ذكرنا تي إس إليوت في رائعته ‘الأرض اليباب’، وليس فقط في بريطانيا حيث تحول ربيعه شتاءً هذا العام. ففي الثالث عشر منه تذكر الناس اشتعال الحرب الأهلية في لبنان، بدءاً من حادثة عين الرمانة الشهيرة التي شهدت الاعتداء على باص ينقل فلسطينيين وقُتل ثلاثون منهم في عام 1975. ولعلنا بعد حين سنذكر أمس الأول، الثالث والعشرين من أبريل ومعه اسم بلدة أخرى: الحويجة، كبداية لتاريخ دموي جديد افتتحته قوات المالكي باقتحامها ساحة اعتصام مدني قتلت فيها من قتلت. وكان هذا يكفي، كما في لبنان عام 1975، لتفجير برميل البارود المتأهب.

(2)
في نيساننا هذا، كما في سابقه، تصدرت المشهد ميليشيات طائفية، تزعم من جهة أنها تدافع عن الوطن ضد الاجانب، وتحتمي في نفس الوقت بالأجانب ضد الوطن. في لبنان فرنجية والجميل في العهد الغابر، كما في عراق المالكي اليوم، أثارت الشوفينية من جانب مخاوف الطائفة من مخاطر وجودية عليها وعلى الوطن، واستقوت من جانب آخر بدعم خارجي ونعرة شوفينية فاشية من جانب آخر. وهكذا سمعنا عن ‘سيناريو سوري’ يخطط للعراق، متناسين أن السيناريو السوري بدأ بالعدوان على المتظاهرين المسالمين في بلدة درعا، تماماً كما حدث في الحويجة.

(3)
الميليشيات التي استدرجت الطائفة المارونية إلى محرقة الحرب الأهلية كانت وقتها منتشية بزهو الشوفينية وطموحات الهيمنة الكاملة، ولكن الأمر انتهى بالجميع إلى أسوأ مصير ممكن. آل فرنجية الذين تولوا كبر المواجهة، انتهى الأمر ببعضهم قتلى بيد حلفائهم، وبالباقين أزلاماً لسورية الأسد التي يكرهون، وهو شر مصير لدعاة الشوفينية. ولم يكن البقية أفضل شأناً: فالبعض تنقل من الاستزلام لإسرائيل للتشرد أو السجن، والآخر تنقل منه إلى عبودية كاملة لمخابرات سورية، حتى أن البعض رضي بدور صبي لنقل المتفجرات نيابة عنها. ويا لها من مأساة أن يقاتل البعض ويبذل التضحيات، ويسفك الدماء ويخرب البلاد، من أجل أن يصبح عبداً في وطنه بعد أن كان سيداً.

(4)
إذا سارت الأمور كما تشتهي سفن الشوفينيين الجدد في العراق، فلن يكون المصير مختلفا. سيتمزق العراق إلى كانتونات ودويلات، وسيقع تحت هيمنة دول الجوار، وينتهي الأمر بمن أشعلوا الحرب كما حدث لاشياعهم من قبل، أن يصبحوا عمالاً في بلاط كسرى فارس، يؤمرون فيطاعون، ويندبون فيخدمون. هذا إذا كانوا محظوظين بالطبع، ولم تلتهمهم النيران التي أشعلوا، وإذا لم تنتقل نيران الصراع إلى إيران المحاربة دولياً والممزقة داخلياً بعد ‘ربيعها’ المجهض في ثورتها الخضراء عام 2009، ثم بعد الخلاف الحاد داخل المعسكر المحافظ بين أنصار أحمدي نجاد وأنصار المرشد.

(5)
ليس من الضروري أن تشتعل الحرب الطائفية في العراق إذا سادت الحكمة وتراجعت النخبة الشوفينية المحيطة بالمالكي عن المنهج الذي جربه من قبل ميلوسوفيتش في صربيا وفرنجية في لبنان وغيرهم فلم يحصدوا إلا الدمار والندامة. ولم يعد مناص من رحيل المالكي بعد أن حول ما كان يجب أن يكون احتفالاً بالانسحاب الأمريكي من العراق إلى كارثة وانقسام عراقي وعودة إلى دكتاتورية جعلت بعض العراقيين يترحمون على صدام والاحتلال معاً.

(6)
في وقت سابق من هذا الشهر، حضرت جانباً من مؤتمر نظمه في الدوحة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات حول مرور عشرة أعوام على غزو العراق. وقد شهد المؤتمر، الذي غلب على الحضور فيه المعارضون للغزو والاحتلال، مشادات حادة بين من قبلوا المشاركة في العملية السياسية ومن ظلوا خارجها. وقد طالب بعض الحضور نائب الرئيس المنفي طارق الهاشمي بالاعتذار عن مشاركته في العملية السياسية. وهذا دليل آخر على الضربة القاصمة التي وجهها المالكي لقوى الاعتدال في العراق حين غدر بشركائه في العملية السياسية في سعيه المحموم والإجرامي للانفراد بالسلطة وتصفية الحسابات الطائفية.

(7)
مؤتمر الدوحة كشف أيضاً عمق الأزمة العراقية وزيادة حدة الاستقطاب السياسي فيه. وكنا قد كررنا مراراً في حواراتنا مع الإخوة العراقيين أن الاحتلال وتعاظم النفوذ الإيراني وغيرها من مظاهر تغول الخارج هي نتيجة لخلافات العراقيين واقتتالهم، وليست سببها كما يروج البعض. وها نحن نرى نتائج محاولة فرض الأحادية الطائفية لوراثة المحتل الأمريكي قد دفعت بالبلاد إلى حافة حرب لن تبقي أو تذر.
(8)
في حوارات جانبية على هامش المؤتمر وجه لي بعض الإخوة العراقيين انتقادات مريرة، لأنني كما قالوا أكثر من لوم نظام صدام على ما آل إليه حال العراق، وقال قائلهم: ها هي الديمقراطية التي ظللت تنادي بها، فلتسعد بثمارها! كان ردي بأنني لا أعتذر عن انتقاد الطغيان الدموي حتى لو جلب الخير كل الخير للبلاد، فكيف لو أدى إلى احتلالها وخرابها؟ وعلى كل فإن ما يشهده العراق اليوم ليس ديمقراطية وإنما هو طغيان من نوع جديد، يتبع نفس الوسائل الصدامية للبقاء في الحكم. ولكن حتى لو سلمنا بأن النظام السابق كان أفضل، فأين هو اليوم ليدافع عن العراق وينصف السنة؟

(9)
ما يحتاجه العراق اليوم ليس تطرفاً سنياً مضاداً يداوي شوفينية المالكي وطائفيته بالتي كانت هي الداء، ولا حنيناً لأيام صدام الذي فعل بالسنة ما لام عليه امرؤ القيس والده: أضاعه صغيراً وحمله ثأره كبيراً. فقد أضاع صدام السنة وقمعهم وهو في السلطة، وحمل بعضهم آثام نظامه بعد رحيله. ولكن المطلوب هو تضافر قوى الاعتدال في العراق لعزل الطائفيين وأنصار الدكتاتورية حتى يعيش العراق في حرية وسلام وقوة ورفاهية.

(10)
البداية تكون برحيل المالكي الذي أشرف على إعدام الرئيس السابق، في مخالفات قانونية ودستورية (حتى لا نقول أخلاقية) توجب بدورها محاكمته. وكانت تهمة صدام أنه أعدم بضع عشرات من المتهمين في محاولة اغتياله. الآن، وخلال يومين فقط، قتل المالكي وبدون محاكمة حتى ولو كانت صورية – أعداداً مماثلة من متظاهرين سلميين لم يتهمهم حتى هو باغتيال أحد. وما نأمله هو أن يتم تدارك هذه الأزمة قبل أن نشهد وقائع إعدام زعيم عراقي آخر يلحق بسلسلة طويلة من نوري السعيد وعبدالكريم قاسم إلى صدام. فقد نال العراق كفايته من الدماء. فارحموه ـ وارحمونا- يرحمكم الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية