هل كان الرئيس معمر القذافي، خارج حدود الكاميرات والاجتماعات السياسية، هو الشخص نفسه الذي يجلس وحيداً مطرقاً إلى مكتبه، أو محدقاً في الأفق الممتد أمامه بعيداً بعض الشيء عن حراساته؟ هذه مسألة لم يكتب الكثير حولها، فالرئيس القذافي على كل ما يظهره من جرأة، كان شخصاً يحتفظ بمسافة تتيح له أن يبقى غامضاً وغير متوقع، وتمكن من اختصار ليبيا في ذاته، فأصبحت بلداً غامضاً وغير متوقع، وتراجعت المؤسسات وأصبحت كل بنية الدولة ومقدراتها مختزلة في شخص متقلب المزاج، ولكنه أبقى أشكالاً كرتونية للمؤسسية تتشابه مع كل شيء عمل على صياغته، فكل شيء يؤول في النهاية إلى ذلك الرجل الذي يقبض على مفاصل السلطة تحت دعوى أن السلطة للشعب وحده، وهو الشعب وليس الدولة، فالدولة مشروع يمكن أن يستقر عليه الزعيم يوماً (ما).
ما يفترض أن يكون مثالاً لحكم لا مركزي يعطي اللجان الشعبية أدواراً واسعةً لم يكن أكثر من نظام محاصصة للموالين للقذافي، الأقرب فالأقرب، وتمضي المنظومة طالما بقيت المحاصصة فاعلةً، وتميل للعطب في حالة فشلها في توفير الريعية اللازمة، وأتت طموحات القذافي في تصدير شخصيته وإنتاجها عربياً وافريقياً، الأمر الذي تكبدت لأجله ليبيا الكثير من ثرواتها.
التجريف التاريخي الممتد يجعل الليبيين يخرجون من صورة أصابع سيف الإسلام القذاقي التي تطاولت لتهديدهم بالفوضى ليدخلوا في متاهة المزاجية الاستبدادية المراهقة لحفتر
في مسيرة الطاغية تقصى جانباً الأصوات العقلانية، وتتهشم الكفاءات في حفلة تقديم الولاء لشخص الطاغية ورؤيته، ولأن الجميع يمثل على الجميع، فالقيادة تعرف لا واقعية الرؤى التي يقدمها الزعيم، وصولاً إلى العبث، وتكتفي بتقديم ما يشبه الإنجاز، ومع الوقت يكتمل التجريف وتصبح البلاد شبيهة بعصا سليمان التي ينخرها الدود وصولاً إلى لحظة الحقيقة. هذه هي القصة البعيدة لانهيار سدود درنة والكارثة الإنسانية التي أسفرت عن 5000 ضحية من أبناء الشعب الليبي، مع وجود آلاف المفقودين، وفي رأي علمي يقدمه الخبير رشاد حامد، مقارناً ما حدث في درنة بزلزال المغرب تأتي إشارة واضحة للتقصير والإهمال الجسيم في حادثة درنة، فالزلزال لا يمكن تجنبه ولا التنبؤ به، أما انهيار السد فأكثر من فرصة متوفرة لتجنبه، فعلى امتداد السنوات كان من المتوجب المعاينة والصيانة، والعاصفة لم تظهر بصورة مفاجئة، فكان يمكن تنفيذ بعض الإجراءات العاجلة، والقصة ملخصها أن مفيض السد الذي يفترض أن يقوم بتصريف المياه الزائدة بطريقة آمنة كان مهملاً، وتراكمت العوائق التي تحول دون التصريف السليم للمياه بما أدى إلى انهيار السد دفعة واحدة لتجرف المياه جانباً كبيراً من مدينة درنة. أمراء الحرب كانوا منشغلين بالسيطرة على بعض الأحياء أو المناطق، على مخزن أسلحة أو تجنيد المزيد من الشباب العاطلين، أو شراء بعض المرتزقة، وبطبيعة الحال، في هذه الظروف لا يمكن أن يهتموا بمتابعة أوضاع السدود، هذه الأمور ليست من أولوياتهم، ولكن بعد حادثة السد يجب أن يحدث الوعي الضروري ليس لتمكينهم من إدارة شؤون الناس بمسؤولية، ولكن لإزاحتهم لأنهم نتاج لمرحلة التجريف، وما يفرضونه ليس سوى منطق البلطجة الذي يعني حماية الناس من مخاوف تتعلق بحياتهم وممتلكاتهم، وهو ما حدث فعلياً نتيجة الإهمال والتقصير وتغيب المسؤولية، وفقد الآلاف حياتهم، وتعرض أضعافهم إلى خسارة ممتلكاته. هذه الكينونات الصديدية بقيت بعد الجرح العميق الذي أحدثته سلطة العقيد القذافي في ليبيا، والعالم لا يبحث عن استقرار ليبيا ولا يفكر في إعادة البناء، فالوضع السياسي يتيح لكثير من القوى الفاعلة في حوض المتوسط أن تسيطر على حصة من الثروات الليبية، نتيجة دعمها أو مساندتها لفريق أو لآخر، وبمجرد أن تبدأ الصراعات فإن طاولة القمار السياسي تصبح هي المتحكم الرئيسي في مجريات الأحداث، وبعد فترة يتغذى أمراء الحرب ويفرضون منطقهم ومصالحهم على أرض الواقع.
التجريف التاريخي الممتد يجعل الليبيين يخرجون من صورة أصابع سيف الإسلام القذاقي التي تطاولت لتهديدهم بالفوضى ليدخلوا في متاهة المزاجية الاستبدادية المراهقة لصدام حفتر الذي يطلق أوامره للقبض على بالقاسم العبيدي لأنه ينتقد الظروف في إقليم برقة، الذي يقع تحت سلطة المشير حفتر وميليشياته، وإذا كنا نعرف كيف انحدرت ليبيا إلى هذه الحالة الكارثية، فإن الثقة يجب أن تتوفر أن بلداً أنجب رجالاً مثل عمر المختار والصادق النيهوم يستطيع أن يقدم المزيد في حالة انفتحت القدرة على المشاركة السياسية الحقيقية غير المقيدة بمنطق صراع العصابات والسماسرة على حصة من ثرواتها. ينكشف الواقع المخيف في ليبيا بصورة غير مسبوقة، وبما يستدعي تدخلاً حقيقياً، لأن انهيار ليبيا كارثة محدقة بأكثر من فضاء إقليمي، والمطامع التي تحرك القوى العالمية والإقليمية تجاه تحريك الوضع الليبي لمصلحة أطراف منتفعة مهما بلغت في المدى القصير لا يمكن أن تغطي تكلفة انهيار ليبيا وانحلالها إلى مزيد من الفوضى. كارثة درنة من الناحية التاريخية تضع ليبيا أمام مفترق للطرق بين أن تتحول إلى لحظة يقظة مطلوبة، أو أن تصبح لحظة تضع ليبيا التي نعرفها أو نريدها على طريق اللاعودة.
كاتب أردني