الثورة الجزائرية السلمية الشعبية، والتي تمكنت حتى اللحظة، من زعزعة النظام، وإقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقه، هي حدث تاريخي بكل معنى الكلمة، وتأثيرها على المنطقة العربية ودول أخرى بالعالم، سيكون عميقاً وكبيراً. فالشعب الجزائري بعفويته، استطاع أن يُعطينا دروساُ، بالحنكة السياسية والعمل الفعال الخلاق، لم يكن بالإمكان توقع حدوثه، ولا حتى من أعتى أخصائيي السياسة وعلم المجتمع.
مدرسة الأجيال
ماذا نستطيع لحد الآن الاستخلاص من هذه الدروس، وقد تصبح مدرسة للأجيال والشعوب الأخرى؟. أول هذه الدروس، هو أن لا شيء يقهر إرادة الشعب، عندما يكون موحداً، وبعيداً عن الطائفية، فالشعب الجزائري بعربه وبربره، خرج كرجل واحد وروح واحدة، يهتف طالباً الحرية والديمقراطية، واضعاً إسقاط النظام، كل النظام، هدفه الوحيد، الطائفية التي تعم دولاً في المشرق العربي كالعراق وسوريا، بين الشيعة والسنة، والأكراد والعرب والعلويين، هي أحد أسباب فشل الحراك الثوري الديمقراطي، الدرس الجزائري، سيكون لهذه الشعوب، مصدر إلهام لسلوك طريق الصواب، والاتحاد لإسقاط الأنظمة الاستبدادية.
لم يقبل الشعب الجزائري، بسقوط رمز النظام، أي رئيس الجمهورية، بل أصر على إسقاط الزمرة الحاكمة كاملة، مُتهماً إياها بكونها عصابة، ولا يقبل أن يترك مصيره بيد العسكر، حتى ولو أظهر قائد الجيش تعاطفاً مع الثوار، فهو واع بكون هذه القيادة، مُعينة أصلاً من النظام وهي جزء منه. هذا ما لم يحدث بمصر، عندما ترك الشباب ساحات النضال، بمجرد سقوط مبارك، تاركين للعسكر مُهمة استكمال المشوار، ونعرف جميعنا الآن إلى أي مكان ومنزلق خطر أرسلنا هذا المشوار.
تفريق المتظاهرين
وُلوج الحركات الإسلامية، ومنهم الإخوان المسلمون، واختراقهم لثورات الربيع الأول مع فكرهم الإصلاحي اللفظي، هو ما أدى إلى وُصول الجيش للسلطة، وتمسكهم بها، وعودة الديكتاتورية العسكرية لحكم مصر، هذا ما لا نراه حالياً في الجزائر، حيث يتميز الإسلاميون باختفائهم تقريباً عن الساحات، ورفض الشارع الجزائري، إعطاءهم مساحة سياسية للتأثير بالأحداث، والقليل منهم الذين يظهرون على شاشات التلفزة، يُغردون خارج سرب المتظاهرين، ويطرحون أفكاراً وسطية، تقبل التعاون مع جزء من السلطة، بدل الفكر الثوري التغييري الشامل للشعب الثائر.
لقد أدى فكر الحركات الإسلامية في دول المشرق العربي، إلى تطور التطرف الديني، وظهور الجماعات الجهادية، واستعمال العنف التكفيري، ليس ضد السلطة الظالمة، ولكن ضد الثوار أنفسهم، وفتح الباب لعودة الثورة المضادة وانتصارها كما رأينا في سوريا.
الصبغة النسائية
نزول ملايين المتظاهرين الجزائريين دفعة واحدة، وبكل جمعة، أفسد على السلطة إمكانية استعمال القوة لتفريق المتظاهرين وقمعهم، الحجم الهائل للمظاهرات وتنوعها وانتشارها بكل البلاد، كان الوسيلة المُثلى، لحشر النظام وقواه القمعية بالزاوية، وبالتالي استسلامه بالنهاية.
وهذا ما فطن إليه متظاهرو السودان، والذين اتبعوا حديثاً الأسلوب الجزائري، أي وضع الكثافة العالية للمتظاهرين، لإبطال مفعول العنف المُتوقع من الجيش أو الشرطة، مُضافاً إلى السلمية والانتظام التام، وعدم مهاجمة رموز السلطة، كمؤسسات الحزب الحاكم أو الإدارات الأمنية.
من الدروس المهمة أيضاً، الاعتماد على المجتمع المدني ومنظماته المهنية، حتى ولو لم تكن مُعترفا بها، لتنظيم وإدارة الحراك، بدل الأحزاب السياسية، فالمجتمع المدني يحمل تطلعات الشباب الحقوقية، برفع الظلم والعدالة الاجتماعية والحرية، مُبتعداً عن الفكر الحزبي الضيق، الذي لا يهتم إلا للوصول للسلطة وتحديد هويتها الإيديولوجية، بدل بناء الدولة، وهذا ما يفسر فشل الأحزاب الذريع بكل الثورات العربية.
رفع شعارات الحضارة الإنسانية الحديثة، وبناء دولة ديمقراطية مُنفتحة على العالم، والتي لا تفرق بين أبنائها، مهما كانت لغاتهم ودياناتهم وأجناسهم، ولا تفرق بين المرأة والرجل وتحفظ حقوق الإنسان، مُبتعدة هكذا عن الإدعاء بالفكر الخاص بالعرب أو بالمسلمين، المُنطوي على نفسه والدافع نحو التفرقة والصراعات التي لا تنتهي. حتى أن رفض التدخل الخارجي، بكل أشكاله، كان واضحاً بشعارات المتظاهرين، قاطعاً الطريق على نظرية المؤامرة، التي عمت الثورات العربية الأخرى.
العلم الفلسطيني
الصبغة النسائية الواضحة والقوية، للحراك الجزائري، ونراه أيضاً في الثورة السودانية الحالية، هو دليل على أن المرأة العربية، لم تعد تقبل البقاء بالبيت بانتظار ما سيفعله الرجل لها، بل تأخذ زمام الأمور وتبادر للمشاركة، بل لقيادة الحراك الثوري، وهو ما يعطيه فكراً وبُعداً أكثر واقعية، ويبتعد عن العنتريات الرجولية، والفكر المحافظ القامع لحقوق الإنسان.
تحديد الدول المُعادية للثورات العربية بأسمائها، وإظهار وعي المتظاهرين بدورها ورفضهم لتدخلها، حتى ولو حاولت دول مثل السعودية والإمارات، إعطاء الانطباع بتفهم الحراك بالإعلام، بينما هي بالخفاء، تحاول استنساخ التجربة المصرية وإيصال العسكر إلى السلطة.
يرفع المتظاهرون الجزائريون، العلم الفلسطيني بشكل قوي، وهو العلم الوحيد تقريباً المرفوع خارج العلم الوطني أو الأعلام الجهوية، وهذا ما يُفزع برأيي كل دعاة الشؤم في العالم العربي وباقي العالم، ممن يدعون أن القضية الفلسطينية قد تم نسيانها، وهي بطريق الاحتواء التام، وأن الشعوب مشغولة بثوراتها، ولم تعد تهتم بفلسطين. رفع العلم الفلسطيني بجانب علم الثورة الجزائرية، يوصل رسالة من الشعب الجزائري الثائر بالملايين، أن قضية فلسطين بالنسبة له، هي قضية داخلية خاصة مثل قضاياه الداخلية الأخرى كالحرية والعدالة الاجتماعية، ويعتبر الشعب الجزائري أن فلسطين هي جزء منه، ولن يقبل المساومة على قضيتها، وهذا هو الشعور الشعبي العربي العام، وهو ما يحفظ لفلسطين أمل التحرير، بعد زوال الأنظمة المافياوية الحاكمة، والتي لا تُمثل أبداً بسياساتها تطلعات شعوبها، لتحرير هذه البقعة من الأرض العربية، وتُعيد مركزية القضية الفلسطينية بقضايا الأمة.
الثورة الجزائرية ستُعلم وتُلهم باقي الشعوب العربية وغيرها، وتضع لهم خريطة طريق وأسلوب الثورة الناجحة الفعال، وهي التي تعلمت من دروس وأخطاء الربيع العربي الأول وعرفت كيف تتفاداه.
كاتب ومحلل سياسي