دروس للسوريين عمرها أكثر من ربع قرن

غريب أمر الذاكرة كما لو أن لها قوانينها الخاصة، فحين أستعيد حوادث شهدتها وشهدها السوريون، أستعيدها بمشاعر مختلفة عما أحسسته وقتها وبفهم أعمق وأحياناً مختلف. ومن حين لآخر ترشقني ذاكرتي بحوادث كانت كالوشم في عقلي وروحي، لكنني حين أستعيدها الآن وبعد مرور أكثر من ربع قرن على حدوثها، أستعيدها بشعور مختلف وفهم أعمق.

حوادث الاختطاف

في منتصف الثمانينيات أو بعدها بسنوات قليلة، رُوعت اللاذقية بخبر اختطاف أحد أشهر وأرقى الأساتذة، وأظنه كان أستاذ رياضيات وهو من الطائفة المسيحية، كان خلوقا جداً وليس له أي نشاط سياسي، ولا يتكلم أبداً في السياسة، ولا ينتقد الظلم بتنوعاته في سوريا، ومنها شح الراتب مثلاً. لو كان ناشطاً سياسياً لفسرنا سبب اختطافه أنه ناشط سياسي، لكنه إنسان بسيط كل اهتمامه بأسرته وطلابه، خطفه أحد كبار الرجال الذين لا يجرؤ قاض على أن يحاسبهم، فهو فوق القانون ولديه حاشية من المجرمين يرافقونه، اختطف زعيم الميليشيا الأستاذ في وضح النهار وعلى أمتار من بيته، وغاب في المجهول سنة كاملة، ولجأت زوجته وأقرباؤه للأجهزة الأمنية كلها، ولأشهر المحامين ليعرفوا أين هو؟ ولماذا خُطف؟ ولم يحصلوا على أي تفسير!
واعتقد الكثيرون أنه على الأغلب مات، أي قتلته العصابة التي اختطفته، وكان سكان اللاذقية يتهامسون لماذا اختطف؟ وهو المسالم الذي لم ينطق كلمة انتقاد، أو احتجاج على الظلم، وانعدام الحرية والكرامة للسوريين جميعاً. وفوجئ أهل اللاذقية بعودته بعد عام، دخل بيته مجللاً بالصمت لم ينطق كلمة واحدة عن اختطافه، وأين كان؟ وكيف عامله الخاطفون؟ ولماذا أصلاً خطفوه؟ ولماذا حجزوه عندهم عاماً كاملاً؟ ولماذا قرروا إطلاق سراحه بعد سنة؟ ولماذا لم يقتلوه؟ ولماذا لم يحكِ لزوجته الحبيبة ما حصل معه طوال سنة الخطف. حتى إن زوجته كادت تصاب بانهيار عصبي، لأنه التزم الصمت التام تجاه جريمة خطفه، واعتبرت أنه لا يثق بها كفاية.
وبدأ الأصدقاء والأقرباء والمحبون يتوافدون إلى بيت الأستاذ ويباركون له بعودته سالماً، ولم يرد على أسئلة الناس المتشوقة لمعرفة أين كان طوال سنة الاختطاف؟ ظل ملتزماً الصمت تماماً ثم منع الناس أن تسأل أي سؤال. الآن وبعد مرور أكثر من ربع قرن على هذه الحادثة، التي كنت شاهدة عليها، وأعرف الأستاذ وأسرته وأقرباءه، وهم من أرقى الناس، وشعارهم في الحياة: الحيط الحيط ويا رب السترة، لماذا إذن تم اختطاف أستاذ مسالم تماماً صامت، وكل معارفه مثله أناس بسطاء. يتضح لي الآن أن خطف الأستاذ كانت غايته تلقين السوريين (خاصة أهل اللاذقية مدينة الأستاذ) درساً صريحاً أن يلتزموا الصمت أو الخرس، وأن يدوسوا على كرامتهم، إذا أرادوا أن يبقوا على قيد الحياة، وألا يتجرأوا على انتقاد أي شيء في حياتهم، وأن يعرفوا أن ثمة قوة لا حدود لها يمكنها أن تغيبهم في لحظة عن الوجود كما فعلت مع الأستاذ إياه، وأظن أن العصابة أبقته حياً ليس رأفة به، بل ليكتمل الدرس ليدرك السوريون أن تلك القوة التي تقبض على حياتهم بقبضة من حديد لها صلاحيات مطلقة ولا أحد يحاسبها وقد خبروا بأنفسهم كيف أن اللجوء لأجهزة الأمن وللقضاء لم يعطِ نتيجة، فالزعيم فاحش الثراء والنفوذ والسلطة والخارج عن المحاسبة يمكن أن يلهو بالناس كأنهم دمى، يخطفهم، يقتلهم، يحول حياتهم إلى جحيم وأحلامهم إلى كوابيس، يجعل الأمهات في حالة ذعر على حياة أولادهم ويوصونهم أن ينسوا كرامتهم وألا ينطقوا بأي كلمة قد تستفز الزعيم المتحكم بحياة الناس.
تعلم معظم السوريين هذا الدرس، أي تهديد وأي ذعر عاشه الأستاذ المخطوف طوال سنة، وكيف بقي كاتماً السر في قلبه ولم يبح به لأحد. وظل لغز الأستاذ حديث السوريين، خاصة في اللاذقية لسنوات ونجح هذا الزعيم في ربط مفهوم الأمان بالصمت وسحق الكرامة، كما لو أنه يريد أن يقول للسوريين: إذا أردتم أن تعيشوا بأمان وألا تفقدوا حياتكم فكونوا صماً بكماً عمياً وستنعمون بالأمان أي ستبقون على قيد الحياة، وهو أمان الدجاجات في القفص وللأسف اعتقد الكثير من الناس أنهم يعيشون بأمان فهم يمارسون شعائرهم الدينية، ويحتفلون بأعيادهم، ويحتفلون بأعراس أولادهم ويدفنون موتاهم حسب طقوس كل دين، فهذا هو الأمان والثمن بسيط أن يخرسوا.

أدب السجون

أراد الناس أن يواسوا أنفسهم بأن الثمن بسيط وهو الابتعاد عن السياسة، وبأن العين لا تقاوم مخرزاً، وعاينوا مصير مئات الألوف من الشبان والرجال الذين تجرأوا وتكلموا وانتقدوا وانتموا إلى أحزاب سياسية تعارض النظام، كان مصير هؤلاء مُروعاً، ربما الميزة الوحيدة لاعتقال هؤلاء الشجعان المطالبين بالحرية والكرامة، هو أنهم أنتجوا أدباً عظيماً (أدب السجون) لكن للأسف الخوف ظل متجذراً في نفوس الكثير من السوريين، وبعضهم يعتقدون أن ما حصل في مارس/آذار 2011 لم يكن ثورة، وأحد أقرب أصدقائي في حلب الشهباء وهو حاصل على شهادة جامعية، ومثقف وشهد جحيم حلب، وكان قد اتخذ قراراً ألا يترك حلب مهما حصل، وكان ضمير حلب وكتاباته عظيمة ووطنيته عالية، وكان يحكي قصصا كثيرة عن الفساد والسرقات، أثناء عمله في إحدى مؤسسات الدولة في حلب، قبل 2011 بسنوات طويلة، هذا الرجل الشهم الذي عاش جحيم حلب وكان شاهداً على الدمار الفظيع لحلب الشهباء لا يعترف أن ما حصل ثورة، ولا يطيق أن يشترك بأي حوار يقول عما حصل في 2011 ثورة، بل ينسب كل الجرائم والفظائع التي حصلت في سوريا لأصحاب اللحى (أي للإسلام السلفي المتطرف) ويكتب دوماً على صفحته على «الفيسبوك» عن أصحاب اللحى، كما لو أنهم الشياطين الوحيدون الذين دمروا سوريا، وأجبروه بعد سنوات من جحيم حلب أن يلجأ إلى كندا حفاظاً على حياة أولاده ومستقبلهم. وحين كنت أقول له:
هل كنا سعداء ونشعر بكرامتنا قبل 2011 وماذا عن مئات الألوف من الشبان سجناء الرأي، والكثير منهم كانوا زملاءك، لا يتركني أكمل كلامي ويعتبر أن موضوع سجناء الرأي تفصيل غير مهم كثيراً تجاه الشياطين الذين دمروا حلب الشهباء، مدينته التي يعشقها، وهم أصحاب اللحى.. شعب مُروع مذعور منذ عقود من تسلط الأجهزة الأمنية وانعدام الحرية والكرامة والفظائع التي حصلت في السجون، شعب تجذر الخوف في روحه لدرجة أن الكثير من السوريين، ينكرون أدب السجون ويرفضون قراءته، بل يعتبره البعض نفاقاً ومؤامرة. والبعض يُغيبه تماماً عن فكره، حفاظاً على أمانه الزائف (أمان الدجاجات في القفص) بل يقولون: كنا عايشين أجمل حياة قبل 2011. ولو كنتم تعيشون أجمل حياة لماذ انتفض الناس إذن مطالبين بالحرية والكرامة والعيش الكريم، لماذا يطيش صوابكم من كلمة ثورة، وتستميتون في الشرح، إن ما حصل ليس ثورة؟
وحتى لو قررنا عدم استعمال لفظ كلمة ثورة وسموها أي اسم تريدون/ حراكاً، مؤامرة، مخططا جهنميا اسمه الفوضى الخلاقة، إلى ما هنالك من تسميات. مهما رفضتم اعتبار أن ما حصل في 2011 في سوريا ثورة، وحتى قبل 2011 بعقود لم نعش يوماً واحداً شاعرين بالكرامة وعزة النفس والحرية وبراتب يضمن لنا عيشاً كريماً. أي أمان هذا أن أشعل شمعة في كنيسة، معتقدة أنني أمارس حريتي فيما كرامتي مسحوقة ومرتعبة على أولادي، أن يحكوا بالسياسة أو ينجروا إلى تنظيم سياسي لا يرضى عنه النظام. لا يزال الخوف متجذرا في أعماق السوريين، ليس في الداخل السوري فقط، بل حتى سوريين في الخارج أيضاً. الخوف السوري أخطر من السرطان وأخطر من كورونا التي في كثير من الحالات يتحول اسمها إلى التهاب في الرئة. تعلم السوريون الكثير من الدروس كي يصمتوا مقابل عيش ذليل. وما خطف أستاذ الرياضيات سوى درس لا ينساه على الإطلاق سكان مدينة اللاذقية..

كاتبة سورية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    سعيا منها إلى تشخيص بعض العلل الاجتماعية بعيون الطبيبة التي ساعدتها مهنتها كي تكون أكثر التصاقا بحياة الناس وأسرارهم، تؤكد الروائية السورية وطبيبة العيون هيفاء بيطار أن هناك انسجاما بين حياتها وكتابتها، وهي التي خصصت عددا من أعمالها للدفاع عن قضايا المرأة في العالم العربي.

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    أهلاً بالدكتورة والروائية والأديبة هيفاء بيطار
    سأكون من المتابعين الدائمين لمقالاتك! وسردك الواقعي عن الحياة بسوريا خلال ربع قرن وبخارجها خلال عشر سنوات!!
    ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية