دروس للعالم من «مقبرة الغزاة»

لم يبالغ الذين سارعوا إلى تشبيه خروج الولايات المتحدة الفوضوي من أفغانستان هذه الأيام بهروبها المرتبك من فيتنام في الأيام الأخيرة من شهر نيسان (أبريل) 1975.
أوجه الشبه عديدة لكن هناك فرقين أساسيين بين فيتنام وأفغانستان. الأول يتمثل في حضور الصورة بقوة، إذ بينما لم يتابع العالم الهروب الأمريكي من سايغون إلا وفق ما أراد الأمريكيون وكيفما أرادوه، وبعد فارق زمني، ها هو يشاهد مذهولا ما يجري في كابل لحظة بلحظة، وعبر مصادر كثيرة ومتعددة تتيح له أكثر مما يحتاج من صور ومعلومات خام.
الفرق الثاني يتمثل في كون الخروج من أفغانستان يعقب أطول فترة حرب تخوضها أمريكا وأكثرها كلفة على كل الأصعدة. وهذه ستبقى جرحا غائرا في الذاكرة الأمريكية مئات السنين.
الباقي تكرار لمغامرة مجانية كان واضحا منذ البداية أن فرص نجاحها منعدمة.
من المفروض، بعد الكارثة الأفغانية، أن يتعلم الأمريكيون والعالم الدروس والعبر وهي كثيرة وغنية ومفيدة للآخرين. هذه بعضها.
ـ الدرس الأول: هناك شعوب لا يمكن قهرها بالقوة، منها الشعب الأفغاني. عاش هذا الشعب من الحروب والقتال حتى لم يعد لديه ما يخسر. وكابد من الويلات والمعاناة حتى لم يعد هناك ما يخيفه أو يثنيه عن دربه. والحذق اليوم هو الذي يقنع نفسه بألَّا جدوى من شنّ حرب على بلد مثل أفغانستان أو اليمن، لأنها عبارة عن مستنقع موحل ومصيرها الفشل الذريع والعار. وقد اعترف الرئيس بايدن بأن أفغانستان مقبرة الغزاة وبأن ما من قوة تستطيع فرض شيء عليها. ما يجب أن يدركه العالم، وهذا مهم جدًا، أن القوات الأمريكية والدولية لم تنهزم أمام طالبان، بل أمام المجتمع الأفغاني الذي ليس كله على ودٍّ مع طالبان. وما السهولة العجيبة التي دخل بها مسلحو الحركة المدن والولايات الواحدة تلو الأخرى إلا دليلا على ذلك.

تتميز القوى البديلة عن الأمريكيين والأوروبيين بالقرب الجغرافي والاستراتيجي من أفغانستان، وبشعورها بأنها أحق من الآخرين في أفغانستان بحكم عوامل
الكلمات المفتاحية: مقبرة الغزاة

ـ الدرس الثاني: القوة، مهما كان نوعها، ليست المقياس الأساسي ولم تعد كافية لحسم الحروب. بل لم تعد ضرورية إذ حلت محلها أدوات أخرى. القوي صاحب الجيوش الضخمة والأسلحة الفتاكة ليس هو بالضرورة من يقرر مصير الحرب. قد يفوز بمعركة أو معارك لكنه لن يفوز بالحرب. مفاتيح الدخول إلى أفغانستان (وغيرها) لم تعد الدبابة والجيوش الكبيرة فائقة التدريب.
أدركت الحكومات الغربية وغير الغربية هذا التطور الخطير، ولهذا تسابق الزمن من أجل التحضير لحروب المستقبل بما يليق بها: مواجهات رقمية بأقل عدد ممكن من الجنود وأسلحة أخف وفعالية أكبر. فرنسا، على سبيل المثال، تـطلق على سلاح الجو في جيشها «سلاح الجو والفضاء»، وتحضّر لمرحلة جديدة من حروبها وانتشارها العسكري في إفريقيا بأسلحة رقمية يجري التحكم فيها من أي غرفة في باريس أو غيرها من المدن الفرنسية ومن جزر كانت في الماضي مستعمرات. لكن هذا كله لن يفيد الفرنسيين (ومَن في حالتهم) حتى لو قلّل خسائرهم المادية والعسكرية، لأن القلوب الإفريقية موصدة في وجوههم وكسبها يتطلب عملا كبيرا ليست الحرب من بين مكوناته. والكلام نفسه ينسحب على الدول الكبرى التي لديها طموحات توسعية.
ـ الدرس الثالث: بروز أدوات إغراء وتأثير جديدة تعوّض «العسكريتارية»، أبرزها الاقتصاد والمعونات. أينما يخفق العمل العسكري يتفوق الاقتصاد والمال وحديثا أُضيفت دبلوماسية القروض واللقاحات. لا شك اليوم أن الصين وروسيا، وبدرجة أقل إيران، تتموضع في أفغانستان بكل الأدوات، ليس بينها العسكرية، لملء الفراغ الذي سينجم عن انسحاب القوات الأمريكية والدولية. الصين تمتلك قوة الإغراء الاقتصادي وتعرف جيدا كيف تستعملها وأين ومتى. روسيا تستطيع العزف على العامل العسكري، ولديها ما تغري به دولة مثل أفغانستان في وضعها الحالي الهش. وقد جاءت التصريحات الرسمية الروسية حيال طالبان في الأيام الماضية مهادنة لطالبان ومتفهمة. إيران تمتلك أدوات التأثير النفسي والاجتماعي والعقائدي والديني، وهذه إحدى أقوى أدوات التأثير وأخطرها. يرافق هذه المعطيات عامل نفسي هام في صالح القوى الجديدة، وهو استفادتها من المشاعر السلبية التي تراكمت حيال الأمريكيين وحلفائهم الأفغان، وبروز هذه القوى في دور الحليف الذي يبني ما هدّمه الأمريكيون والبريطانيون والفرنسيون ويرمم خرابهم. الصعوبة التي واجهها الأمريكيون طيلة عشرين سنة في كسب عقول عامة الأفغان وقلوبهم، تقابلها سهولة سيجدها الصينيون والروس في التغلغل في المجتمع الأفغاني، خصوصا إذا أصرَّت الحكومات الغربية على مناصبة حكام كابل الجدد عداءً مجانيا.
بالإضافة إلى كل شيء، تتميز القوى البديلة عن الأمريكيين والأوروبيين بالقرب الجغرافي والاستراتيجي من أفغانستان، وبشعورها بأنها أحق من الآخرين في أفغانستان بحكم عوامل القرب المتنوعة. وهي تقترب من أفغانستان متسلّحة بهزيمة أمريكا وخروجها البائس من معركة احتاجت إلى عشرين سنة لتدرك أنها المعركة الخطأ في الأرض الخطأ.
لا أحد ينتظر أن من أمريكا أن تنطوي على نفسها، حتى وإن كان الواقع الدولي والمحلي الأمريكي يشيان بتوجهها نحو ذلك. لكن في المقابل، من مصلحة الإدارات الأمريكية المقبلة أن تتعلم من أفغانستان قبل الآخرين وأكثر منهم، أن ما قبل صيف 2021 ليس كما بعده.
كاتب صحافي جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول SOUAD france:

    نصرالافغان اتلج قلوب المقاومة في كل بقاع الارض و قرع طبول انهزام الغزاة من غزة الي الصحراء الغربية ومن سوريا الي فنزويلا ومن لبنان الي كشمير ترونه بعيدا ونراه قريبا فالنصر صبر ساعة ..انها ايات الله تجلت في عباده المجاهدين الصالحين ودكرتنا بي معجزات فيتنام والجزائر وقبلها التورة البوليفية ونصر كوبا هده الجزيرة التي صمدت في وجه الانكل سام ورغم دلك هاهيا كوبا تفاجئ العالم بي لقاح مضاض للكوفيد وترسل علماء لي مساعدة ايطاليا و اليونان فهل يتعض طغاة العرب؟

  2. يقول سامي:

    مقال اصاب فيه الكاتب كبد الحقيقة

  3. يقول نصيب خميسي:

    دار لقمان على حالها

  4. يقول تيسير خرما:

    انسحبت روسيا فأدخل أمراء حرب دربتهم أمريكا أفغانستان بصراع 7 سنوات فنشأت طالبان واستقبلها الشعب كحركة تحرير وتوحيد وسلمها الحكم، لكن بعد 5 سنوات وحادثة نيويورك تم تحويل أفغانستان كبش فداء واحتلها حلف عسكري بقيادة أمريكا وأقحم مغتربين بالحكم لقنص ثروات، ثم تبين من التحقيق أن منفذي حادثة نيويورك كانوا مقيمين بإيران وسهلت عبورهم بجوازاتها لأمريكا بمساعدة سفارتها بألمانيا وتبين أن أمريكا وصلتها استخبارات بذلك لكن لم يتم أي إجراء لإحباطها والآن انسحب الحلف وأتباعه فاستقبل الشعب عودة طالبان بالورود.

  5. يقول م/ب اولاد براهيم:

    بعد اذنك يا صاحب التعليق.. نصرالافغان اتلج قلوب المقاومة في كل بقاع الارض و قرع طبول انهزام الغزاة من غزة الي الصحراء الغربية ومن سوريا الي فنزويلا ومن لبنان الي كشمير ترونه بعيدا ونراه قريبا فالنصر صبر ساعة ..انها ايات الله تجلت في عباده المجاهدين الصالحين ودكرتنا بي معجزات فيتنام والجزائر وقبلها التورة البوليفية ونصر كوبا هده الجزيرة التي صمدت في وجه الانكل سام ورغم دلك هاهيا كوبا تفاجئ العالم بي لقاح مضاض للكوفيد وترسل علماء لي مساعدة ايطاليا و اليونان فهل يتعض طغاة العرب؟

  6. يقول م/ب اولاد براهيم:

    للتاريخ .'( بما ان الكاتب جزائري والموضوع كذلك.) كلمة القبائل .kabile- kabilie . منتوج استدماري والصحيح . ازواوة مصطلح استعماري اطلقه الجنيرال بيجو على سكان منطقة (ازواوة ) سنة 1839 . حينما فشل في القضاء على المقاومة الشعبية التي كان يقودها الامير عبدالقادر؛ واحمد باي . فجمع علماء الاتروبولوجيا – والآثار زالخبراء وتدارسوا فيما بينهم كيف يمكن فك رباط ؛ ولحمة الوحدة ابناء هذا الشعب الواحد الموحد. ( الدين – اللغة – الفضاء ) ليصلوا الى سياسة التفرقة بين العرب وازواوة بمصطلح القبائل انتاج جديد ومن هنا جاءت سياسة فرق تسد. وحتى منطقة ازواوة قسموها الى قبائل كبرى ؛ وقبائل صغرى وراحوا ينشون الاكاذيب؛ والاباطيل وسط السكان كانتم ؛ ونحن من جنس واحد . وديانة واحدة . انتم رومان . انتم جرمان . انتم من الضفة الشمالية .. وكلفوا الكاردينال lavigerie بنشرهذه الاباطيل وسط سكان المنطقة وبنى لهم مدارس تبشيرية لتعليم ؛ ابنائهم.. حتى يمحي مصطلح ازواوة من العقول؛ والاذهان . لان منطقة ازواوة حظيرة من الحظائر الاسلامية ؛ ومنطقة اشعاع اسلامي .حضاري مثلها مثل دمشق؛ وبغداد.. انتجت علماء في الدين – اللغة – الرياضيات- الادب – مجاهدين ..الخ . امثال مؤلف ألفية ابن مالك . ومتن الاجرومية – وقصيدة البردة ونظرية مثلث باسكال triangle de pascle ..

  7. يقول إبسا الشيخ:

    تحياتي لك أستاذ توفيق

إشترك في قائمتنا البريدية