في شرق السودان، كما هو الحال في بقية أنحاء البلاد، تحتل الإدارة الأهلية موقعا متميزا ومكانة عالية، بالنظر إلى تاريخها المُثنى عليه، وحاضرها المشهود، واللذين يعكسان ما تقوم به النظارات، والعمد والمشايخ، من دور هام في رتق النسيج الاجتماعي في المنطقة، وفي الدفاع عن مصالح إنسان الشرق، وفي ربط الحكم في مستواه المركزي، مركز البلد أو مركز الولاية، بالمستوى المحلي القاعدي، في الريف والبوادي، بالنسبة لمجتمع قبلي عشائري يتمدد في مساحة جغرافية كبيرة. والربط بين مستويي الحكم هنا، نعني به المساعدة والتكامل والدعم في تنفيذ عدد من الجوانب الإدارية والوظائف الحيوية، وهذا نابع من أن مؤسسة الإدارة الأهلية تحظى بإحترام كبير وسط المجتمعات الريفية، إضافة إلى تمتعها بإمكانية الوصول إلى المواقع البعيدة عن أذرع السلطة المركزية.
ويمكننا أن نعدد الكثير من الوظائف والمهام التي تطلع بها الإدارة الأهلية، بما في ذلك عمليات إدارة الأرض، والمساعدة في بسط الأمن والتعاون مع الأجهزة الأمنية للحد من الجرائم والقبض على الجناة، ورفد خزينة الدولة بتحصيل الضرائب، خاصة ضريبة القطعان…الخ.
لكن ما يهمنا هنا الإشارة إلى مساهمتها في إرساء دعائم الوحدة الوطنية عبر عدد من الآليات المجربة والناجعة، والتي من بينها: ترسيخ التعايش السلمي بين القبائل لما للإدارة الأهلية من قبول واسع كوسيط وحكم عند حدوث النزاعات، لإلمامها بالأعراف والعادات والتقاليد. وكذلك، دورها في المحافظة على السلم المجتمعي القائم على التسامح والترابط النابع من العادات والتقاليد السودانية، ودورها في تنشيط اللقاءات والمؤتمرات القبَلية الدورية، وتواجدها اللصيق مع القبائل، في حلها وترحالها، كآلية تدخل سريع لفض النزاعات، إضافة إلى أن الإدارة الأهلية، تخلق نوعا من التفاعل والنشاط الاجتماعي خاصة في مناطق عدم الاستقرار..الخ. صحيح أن الإدارة الأهلية تعرضت لمختلف محاولات التشويه والاستغلال السياسي من بعض القوى السياسية، خاصة من قبل نظام الإنقاذ البائد، إلا أنها لا تزال تحتفظ بسيرتها الطيبة وتحظى بالإحترام والمهابة. والحديث هنا ليس عن الإدارة الأهلية في شرق السودان فقط، وإنما في عموم بلادنا. وهكذا، إستعرنا ذهنيا هذه الصورة عن الإدارة الأهلية، كخلفية، وتوجهنا لزيارة الناظر علي محمود، ناظر عموم الأمرأر.
لابد من الإهتمام بمراكز فض النزاعات ومراكز التنمية، وأي تنمية لا تستهدف البشر كأولوية لا فائدة منها
استقبلنا الناظر علي محمود بكل الحفاوة والترحيب في بيته العامر المضياف، والذي إمتلأ صالونه بمجموعة من رجالات القبيلة، لاحظنا أن جلّهم، إن لم يكن كلهم، في عمر الشباب، وفيهم الطبيب والمهندس والمعلم والإداري والموظف والطالب، وأحدهم قدّم نفسه أمينا أو مسؤولا عن رابطة شباب الأمرأرِ، قبل أن يبتدر الناظر الحديث بالتعريف عن الأمرأر، فقال إنهم ضمن مكونات البجا، والأخيرة ثقافة وليست إثنية، وأن النظارة تضم عدة قبائل منها الكميلاب والشياياب، وهي تتميز بكينونتها الخاصة، وليست لديها حدود تماس، وتنتشر في المنطقة من طوكر إلى ما بعد أوسيف، ولهم إمتدادات في ولايتي كسلا ونهر النيل، وتحتضن موانئ سواكن، وبورتسودان، وهيدوب الجديدة، وبشائر. كما تحتضن المحاجر ومصائد الأسماك والأسواق الحرة، ومناجم دهب أرياب التي فيها بيت النظارة. ثم إنساب صوت الناظر، مشبعا بالحكمة، واثقا مطمئنا، وهو يؤكد أن الأمرأر موطن الأمن والسلام، وهي مضيافة للقبائل الأخرى، ورائدة العرف الخاص بالتعايش السلمي، تسعى لنيل حقوقها بالحوار وبالتي هي أحسن، وتقف بحزم ضد أي عمل تخريبي يطال الوطن، وترفض تماما محاولات أخذ الحقوق بالقوة، مثلما ترفض الفتنة التي تُستغل فيها القبائل، وتعتبرها فتنة سياسية، مطالبة بفرض هيبة الدولة، وبضرورة التفريق بين الحرية والفوضى، وأنهم رفعوا للحكومة الإنتقالية مذكرات بهذا المعنى.
وبقوة وحماس، يؤكد الناظر علي محمود أن الأمرأر يقفون مع الثورة بشعاراتها الثلاثة، حرية، سلام، وعدالة، وينادون بالسلام الشامل في كل الوطن، وأنهم يؤيدون أي إتفاق سلام لسببين، أولهما أن دور الإدارة الأهلية هو دعم السلام، وثانيهما أنهم كنظارة أمرأر يدعمون الفترة الإنتقالية وحكومتها، رغم أنهم حتى الآن لا يحسون بتغيير نظرة الحكومة المركزية والولائية تجاههم، علما بأنهم لا يحتاجون إلى مال من أي جهة، فالنظارة تتمتع بأموال وموارد كافية، ولكن ما نالهم من تهميش وإقصاء في التنمية ومن مواقع إتخاذ القرار في السلطة إبان عهد الإنقاذ لم يتغير بعد، مع إدراكهم بأن الحقوق لا تُسترد بين ليلة وضحاها، ولكنهم كانوا يتوقعون رؤية تباشير ذلك في برنامج حكومة الثورة.
لقد ظل الأمرأر خارج الخريطة السياسية والإعلامية في البلد لأكثر من ثلاثين عاما بسبب سياسات الإنقاذ، ومع ذلك لم ولن يستخدموا أي كروت ضغط، فهم ضد الجهوية والتعصب القبلي، والنظارة لا تدعي تمثيل أي جهة سوى الأمرأر. وكمثال للتهميش في التنمية، أشار الناظر إلى التقاعس في تنفيذ طريق بورتسودان أبوحمد، رغم أن الدراسات الخاصة به وميزانيته معدة منذ العام 2002، كما أن شركات التعدين تكفلت بعمل الردميات الأولى. وأهمية الطريق لا تأتي من أنه يمر عبر أراضي الأمرأر، ولكنه أقصر الطرق من الميناء إلى العاصمة، وأكثر أمانا. وبالطبع سيخدم سكان المنطقة، خاصة في حالات الطوارئ الصحية والعناية بالنساء الحوامل اللائي ينقلن إلى المستشفى حاليا بلواري الفحم.
وفي ختام اللقاء، أرسل الناظر علي محمود إشاراتين هامتين إلى السياسيين في المركز، طالبا منهم مناقشتهما بتمعن، أولهما أن هناك أيادي تعبث بأمن البلد وسلامته عبر تغذية النعرة القبلية، وترتدي ثوب الحرية والتغيير، علما بأنه وبعد الدمار الذي خلفته الإنقاذ في البلد، صارت القبيلة هي الحماية والملاذ. لابد من الإهتمام بمراكز فض النزاعات ومراكز التنمية، وأي تنمية لا تستهدف البشر كأولوية لا فائدة منها. وثاني الإشارات، على السياسيين الإجابة على سؤال لماذ تشعر الإدارات الأهلية بأن الجانب العسكري في قيادة البلد أقرب إليها من الجانب المدني الذي تراه بعيدا عنها؟!
كاتب سوداني