دعا الرئيس المؤقت، عدلي منصور (السبت، 14 كانون أول/ديسمبر)، الشعب المصري إلى الاستفتاء على مسودة الدستور الذي أعدته لجنة الخمسين، بعد شهر، أي في 14 و15 كانون ثاني/يناير 2014. هذا هو دستور مصر الثاني في عام واحد، ومنذ ثورة كانون ثاني/يناير 2011؛ وبينما أشار منصور في خطابه للمصريين على التذكير بأن المسودة ليست سوى تعديل للدستور السابق، حرص رئيس لجنة الخمسين، عمرو موسى، في المناسبة ذاتها، على إبراز الدستور الجديد باعتباره وثيقة تختلف جوهرياً عن الدستور المعطل. موسى كان على حق في حرصه على هذا الإيحاء؛ فهل كان مجرد تعديل، أبدى الرئيس مرسي من البداية قبوله به من ناحية المبدأ، يستدعي كل هذا الزلزال الذي تعيشه مصر منذ 3 تموز/يوليو؟
الحقيقة، أن ثمة تغييرات جوهرية في الدستور الجديد، تحمله مواده، على مستوى نظام الحكم وعلاقة مؤسساته المختلفة ببعضها البعض، وعلى صعيد الحريات، وثقافة وقيم الجماعة الوطنية المصرية. وإلى جانب أن الدستور السابق وضعته لجنة منتخبة على مدى ستة شهور، وأن الجديد وضعته لجنة معينة خلال شهرين؛ وأن اللجنة المنتخبة ضمت قامات مثل المستشار الغرياني ود. عاطف البنا، ود. حسن الشافعي، ود. العوا، بينما صاغت الدستور الجديد لجنة كان أبرز أعضائها عمرو موسى ومحمد سلماوي وخالد يوسف؛ فإن الخلافات بين الدستورين باتت واضحة إلى حد كبير، وتناولها الكثيرون بالتعيين والنقاش والجدل. ولكن المشكلة ليست هنا؛ فلكل دستور روح، رسالة، رؤية لذاته وللشعب وللعالم، وما يحمل هذه الروح والرؤية هو عادة ديباجة الدستور. فيما يلي، وبدون تدخل سوى ما يتعلق بنمط الكتابة وفصل الفقرات، سيجد القراء نصي الديباجتين، ديباجة دستور 2012 والدستور المعروض الآن على الاستفتاء. ثمة ركاكة نصية وموضوعية في ديباجة الدستور الجديد، ومقاربة مدرسية، بالغة السطحية لتاريخ مصر، وتناقض لا يخفى مع عدد ملموس من مواد الدستور. بخلاف ذلك، فربما سيصعب اكتشاف الروح والرؤية التي تبرر الزلزال المصري.
هذه، أولاً، ديباجة الدستور المعطل، دستور 2012:
انحن جماهير شعب مصر، بسم الله الرحمن الرحيم وبعونه، هذا هو دستورنا، وثيقة ثورة الخامس والعشرين من يناير، التي فجرها شبابنا، والتف حولها شعبنا، وانحازت إليها قواتنا المسلحة. بعد أن رفضنا في ميدان التحرير وفي طول البلاد وعرضها كل صور الظلم والقهر والطغيان والاستبداد والإقصاء والنهب والفساد والاحتكار. وجاهرنا بحقوقنا الكاملة اعيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية،’ مشفوعة بدماء شهدائنا وآلام مصابينا وأحلام أطفالنا وجهاد رجالنا ونسائنا. واستعدنا أجواء حضارتنا العظيمة وعبق تاريخنا الزاهر؛ فأقمنا أعرق دولة على ضفاف النيل الخالد، عرفت معاني المواطنة والمساواة وعدم التمييز، وقدمت للعالم أول أبجديات الكتابة، وأطلقت عقيدة التوحيد ومعرفة الخالق، واحتضنت أنبياء الله ورسالاته السماوية، وزينت صفحات التاريخ الإنساني بمواكب الإبداع. واستمراراً لثورتنا الطاهرة التي وحدت المصريين على كلمة سواء، لبناء دولة ديمقراطية حديثة؛ نعلن تمسكنا بالمبادئ التالية:
أولاً: الشعب مصدر السلطات؛ يؤسسها، وتستمد منه شرعيتها، وتخضع لإرادته ومسؤولياتها وصلاحياتها أمانة تحملها، لا امتيازات تتحصن خلفها.
ثانياً: نظام حكم ديمقراطي؛ يرسخ التداول السلمي للسلطة، ويعمق التعددية السياسية والحزبية، ويضمن نزاهة الانتخابات، واسهام الشعب في صنع القرارات الوطنية.
ثالثاً: لا كرامة الفرد من كرامة الوطن، ولا كرامة لوطن لا تكرم فيه المرأة؛ فالنساء شقائق الرجال، وشريكات في المكتسبات والمسؤوليات الوطنية.
رابعاً: الحرية حق، فكراً وإبداعاً ورأياً، وسكناً وأملاكا وحلاً وترحالاً، وضع الخالق أصولها في حركة الكون وفطرة البشر.
خامساً: المساواة وتكافؤ الفرص بين الجميع: مواطنين ومواطنات؛ فلا تمييز، ولا وساطة، ولا محاباة، في الحقوق والواجبات.
سادساً: سيادة القانون أساس حرية الفرد، ومشروعية السلطة، وخضوع الدولة للقانون؛ فلا يعلو صوت على قوة الحق، والقضاء مستقل شامخ، صاحب رسالة سامية في حماية الدستور واقامة موازين العدالة وصون الحقوق والحريات.
سابعاً: الوحدة الوطنية فريضة، وركيزة بناء الدولة المصرية الحديثة وانطلاقتها نحو التقدم والتنمية؛ ترسخها قيم التسامح والاعتدال والوسطية وكفالة الحقوق والحريات لجميع المواطنين دون تفرقة بين أبناء الجماعة الوطنية.
ثامناً: الدفاع عن الوطن شرف وواجب؛ وقواتنا المسلحة مؤسسة وطنية محترفة محايدة لا تتدخل في الشأن السياسي، وهي درع البلاد الواقي.
تاسعاً: الأمن نعمة كبرى؛ تسهر عليه شرطة تعمل في خدمة الشعب وحمايته، وفرض موازين العدالة، فلا عدل بلا حماية، ولا حماية بغير مؤسسات أمنية تحترم كرامة الإنسان وسيادة القانون.
عاشراً: الوحدة أمل الأمة العربية؛ نداء تاريخ ودعوة مستقبل وضرورة مصير، يعضدها التكامل والتآخي مع دول حوض النيل والعالم الإسلامي الامتداد الطبيعي لعبقرية موقع مصر ومكانها على خريطة الكون.
حادي عشر: ريادة مصر الفكرية والثقافية، تجسيد لقواها الناعمة ونموذج عطاء بحرية مبدعيها ومفكريها، وجامعاتها، ومجامعها العلمية واللغوية ومراكزها البحثية، وصحافتها وفنونها وآدابها واعلامها، وكنيستها الوطنية، وأزهرها الشريف الذي كان على امتداد تاريخه قوّاما على هوية الوطن، رعياً للغة العربية الخالدة، والشريعة الإسلامية الغراء ومنارة للفكر الوسطي المستنير.
نحن جماهير شعب مصر، إيمانا بالله ورسالاته، وعرفانا بحق الوطن والأمة علينا، واستشعاراً لمسؤوليتنا الوطنية والإنسانية، نقتدي ونلتزم بالثوابت الواردة بهذا الدستور، الذي نقبله ونمنحه لأنفسنا، مؤكدين عزمنا الأكيد على العمل به والدفاع عنه، وعلى حمايته واحترامه من قبل جميع سلطات الدولة والكافةب.
وهذه ديباجة الدستور الجديد، دستور 2013 كما بات يعرف:
اهذا دستورنا: مصر هبة النيل للمصريين، وهبة المصريين للإنسانية. مصر العربية، بعبقرية موقعها وتاريخها، قلب العالم كله، فهي ملتقى حضاراته وثقافاته، ومفترق طرق مواصلاته البحرية واتصالاته، وهي رأس أفريقيا الُمطل على المتوسط، ومصب أعظم أنهارها: النيل. هذه مصر، وطن خالد للمصريين، ورسالة سلام ومحبة لكل الشعوب. في مطلع التاريخ، لاح فجر الضمير الإنساني وتجلى في قلوب أجدادنا العظام، فاتحدت إرادتهم الخيرة، وأسسوا أول دولة مركزية، ضبطت ونظمت حياة المصريين على ضفاف النيل، وأبدعوا أروع آيات الحضارة، وتطلعت قلوبهم إلى السماء قبل أن تعرف الأرض الأديان السماوية الثلاثة.
مصر مهد الدين، وراية مجد الأديان السماوية. في أرضها شب كليم الله، وتجلى له النور الإلهي، وتنزلت عليه الرسالة في طور سينين. وعلى أرضها احتضن المصريون السيدة العذراء ووليدها، ثم قدموا آلاف الشهداء دفاعًا عن كنيسة السيد المسيح. وحين بُعث خاتم المرسلين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، للناس كافة، ليتمم مكارم الأخلاق، انفتحت قلوبنا وعقولنا لنور الإسلام، فكنا خير أجناد الأرض جهادًا في سبيل الله، ونشرنا رسالة الحق وعلوم الدين في العالمين. هذه مصر وطن نعيش فيه ويعيش فينا.
وفى العصر الحديث، استنارت العقول، وبلغت الإنسانية رشدها، وتقدمت أمم وشعوب على طريق العلم، رافعة رايات الحرية والمساواة، وأسس محمد علي الدولة المصرية الحديثة، وعمادها جيش وطني، ودعا ابن الأزهر رفاعة أن يكون الوطن امحلا للسعادة المشتركة بين بنيه’، وجاهدنا، نحن المصريون، للحاق بركب التقدم، وقدمنا الشهداء والتضحيات، في العديد من الهبات والانتفاضات والثورات، حتى انتصر جيشنا الوطني للإرادة الشعبية الجارفة في ثورة ا25 يناير ذ 30 يونيو’، التي دعت إلى العيش بحرية وكرامة إنسانية تحت ظلال العدالة الاجتماعية، واستعادت للوطن إرادته المستقلة.
هذه الثورة امتداد لمسيرة نضال وطني كان من أبرز رموزه أحمد عرابي، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وتتويج لثورتين عظيمتين في تاريخنا الحديث: ثورة 1919 التي أزاحت الحماية البريطانية عن كاهل مصر والمصريين، وأرست مبدأ المواطنة والمساواة بين أبناء الجماعة الوطنية، وسعى زعيمها سعد زغلول وخليفته مصطفى النحاس على طريق الديمقراطية، مؤكدين أن االحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة’، ووضع طلعت حرب خلالها حجر الأساس للاقتصاد الوطني.
وثورة ا23 يوليو 1952ب التي قادها الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، واحتضنتها الإرادة الشعبية، فتحقق حلم الأجيال في الجلاء والاستقلال، وأكدت مصر انتماءها العربي وانفتحت على قارتها الأفريقية، والعالم الإسلامي، وساندت حركات التحرير عبر القارات، وسارت بخطى ثابتة على طريق التنمية والعدالة الاجتماعية. هذه الثورة امتداد للمسيرة الثورية للوطنية المصرية، وتوكيد للعروة الوثقى بين الشعب المصري وجيشه الوطني، الذي حمل أمانة ومسؤولية حماية الوطن، والتي حققنا بفضلها الانتصار في معاركنا الكبرى، من دحر العدوان الثلاثي عام 1956، إلى هزيمة الهزيمة بنصر أكتوبر المجيد الذي منح للرئيس أنور السادات مكانة خاصة في تاريخنا القريب.
وثورة 25 يناير، 30 يونيو، فريدة بين الثورات الكبرى في تاريخ الإنسانية، بكثافة المشاركة الشعبية التي قدرت بعشرات الملايين، وبدور بارز لشباب متطلع لمستقبل مشرق، وبتجاوز الجماهير للطبقات والأيديولوجيات نحو آفاق وطنية وإنسانية أكثر رحابة، وبحماية جيش الشعب للإرادة الشعبية وبمباركة الأزهر الشريف والكنيسة الوطنية لها، وهي أيضًا فريدة بسلميتها وبطموحها أن تحقق الحرية والعدالة الاجتماعية معًا. هذه الثورة إشارة وبشارة، إشارة إلى ماضٍ مازال حاضرًا، وبشارة بمستقبل تتطلع إليه الإنسانية كلها. فالعالم الآن يوشك أن يطوي الصفحات الأخيرة من العصر الذي مزقته صراعات المصالح بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، واشتعلت فيه النزاعات والحروب، بين الطبقات والشعوب، وزادت المخاطر التي تهدد الوجود الإنساني، وتهدد الحياة على الأرض التي استخلفنا الله عليها، وتأمل الإنسانية أن تنتقل من عصر الرشد إلى عصر الحكمة، لنبني عالما إنسانيا جديدا تسوده الحقيقة والعدل، وتصان فيه الحريات وحقوق الإنسان، ونحن المصريون نرى في ثورتنا عودة لإسهامنا في كتابة تاريخ جديد للإنسانية.
نحن نؤمن أننا قادرون أن نستلهم الماضي وأن نستنهض الحاضر، وأن نشق الطريق إلى المستقبل. قادرون أن ننهض بالوطن وينهض بنا. نحن نؤمن بأن لكل مواطن الحق بالعيش على أرض هذا الوطن في أمن وأمان، وأن لكل مواطن حقًا في يومه وفى غده.
نحن نؤمن بالديمقراطية طريقًا ومستقبلاً وأسلوب حياة، وبالتعددية السياسية، وبالتداول السلمي للسلطة، ونؤكد على حق الشعب في صنع مستقبله، هو وحده مصدر السلطات، الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية حق لكل مواطن، ولنا ولأجيالنا القادمة ذ السيادة في وطن سيد.
نحن الآن نكتب دستورًا يجسد حلم الأجيال بمجتمع مزدهر متلاحم، ودولة عادلة تحقق طموحات اليوم والغد للفرد والمجتمع، نحن الآن نكتب دستورًا يستكمل بناء دولة ديمقراطية حديثة، حكومتها مدنية. نكتب دستورًا نغلق به الباب أمام أي فساد وأي استبداد، ونعالج فيه جراح الماضي من زمن الفلاح الفصيح القديم، وحتى ضحايا الإهمال وشهداء الثورة في زماننا، ونرفع الظلم عن شعبنا الذي عانى طويلاً، وتعرضت بعض فئاته لمظالم عديدة. نكتب دستورًا يؤكد أن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، والمرجع في تفسيرها هو ما تضمنته مجموع أحكام المحكمة الدستورية في هذا الشأن. نكتب دستورًا يفتح أمامنا طريق المستقبل، ويتسق مع الشرعية الدولية لحقوق الإنسان التي شاركنا في كتابتها وصادقنا عليها، ونرى ثراء مصادر التشريع يفتح أمامنا آفاق التقدم. نكتب دستورًا يصون حرياتنا، ويحمى الوطن من كل ما يهدده أو يهدد وحدتنا الوطنية. نكتب دستورًا يحقق المساواة بيننا في الحقوق والواجبات دون أي تمييز. نحن المواطنات والمواطنون، نحن الشعب المصري، السيد في الوطن، هذه إرادتنا، وهذا دستور ثورتنا.هذا دستورناب.
‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث