دعاء وأمنيات أهل غزّة: موت بجسد كامل وقبر يستره

زهرة مرعي
حجم الخط
0

بيروت – «القدس العربي»: لم تكن فاطمة (أم محمود) الأم لخمسة أطفال تدرك ما حلّ بأبنائها حين أنهت آخر سجدة صلاة مع والدتها عشية 17/2/2024. تعرف أنها أكملت الركعة الأخيرة بعد سقوط الصاروخ الأول. وسقط الثاني قبل ختامها. لم تقف بعد وكان برميل الطائرة المعادية قد سقط، ومعه ارتفعت الأصوات. طمأنتها والدتها «أنا منيحة يمّا شوفي ولادك». بدأ الصراخ كبار وأطفال وأصوات وحجارة تتساقط. نادت على ابنتها «سوار؟» وجاء الجواب: «منيحة يمّا، إبراهيم وحليمة استشهدوا.. ومحمود ومحمد مش لقياهم».
رغم الخبر القاسم للظهر تماسكت فاطمة، بللت بطانية وجدتها قربها بالماء. غطت أنفها وعينيها تفادياً للفسفور والدخان، ومشت في المكان. تقول: وجدت حليمة جثّة، دماغها خارج رأسها. أكملت الطريق. امشي وأقع.. أمشي وأقع.. الدماء في كل مكان والأشلاء كذلك، ويستحيل تفادي دوسها.
انقشع الدخان ليكشف عن مشهد مرعب. تقول فاطمة: رؤوس أطفال مفصولة عن الأجساد. أطراف هنا وهناك، يد، رجل، قدم، ذراع وأشلاء. شاهدت شاباً يحمل جثمان حليمة إلى الإسعاف، شكرت ربي بأنها كاملة. وكذلك إبراهيم كامل الجسد واصابته في رأسه. بحثت عن محمد 11 سنة وجدته على تلة رمال، قذفه الانفجار إليها، وفيه خدوش. رفع نفسه وأول ما قاله لي: بدي روح أحفر لدفن الأشلاء.
في هذه الأثناء لفتها ما يردده الأطفال واليافعون في المكان المنكوب: «هاد راس عمر.. هاد راس محمد». أحدهم أصرّ على تجميع جسد ابن عمه بعد أن عرفه من بنطاله الأحمر. جمعه قطعاً، رأس دون أذنين، ولم يجد إحدى قدميه. ركضت إلى المشفى وإذا بأحدهم يُطمئنني «إبراهيم عايش.. إبراهيم عايش». ركعت وشكرت ربي، لكنهم رفضوا ادخالي إلى المشفى لوداع حليمة. خلال انتظاري خارجاً وصلت شاحنة محملة بالأشلاء. أفرغت في باحة المشفى وكأنها رمل أو حصى. وبدأ أقارب الشهداء بحثهم عن أحبتهم. بحث عن إبرة في كومة قش.. للأسف.
تابعت فاطمة جلوسها في فناء المشفى لتودع حليمة قبل دفنها، وإذ بأحد الأقارب يأتيها صارخاً: خالتي: حليمة عايشي.. حليمة عايشي.. حرّكت اصبعها وإحنا منكفنها. لازمت حليمة العناية المركزة بعد الجراحة.
تقول الأم: على مدى أسبوع كنت أزورها مرّة في اليوم لعشر دقائق. أنفرد بها، واقرأ لها القرآن وأحدّثها. وفي يوم أخبرني الطبيب بضرورة حضوري لأن حليمة ستنقل إلى سرير عادي، وتخطت مرحلة الخطر، للأسف ستعيش دون حركة ووعي، أنهي الطبيب حديثه معي. لفني الصمت الموجع.. طلبت من ربي فقط أن يبقي لها نظرها لتراني. وصلت إليها في غرفة العناية وبيدي سبحة وخاتم الصلاة.. حركتهما أمام ناظريها فاستجابت سريعاً.. بكيت وركعت وصليت شكرا لله. كان فريق من الأطباء بينهم أمركيون يشرفون على رفع الأنابيب عن جسد حليمة. وإذ بها تحرك يديها، ومن ثمّ رجليها وسط دهشة الجميع. عندها ركع الأطباء وصلوا بقربها جماعة.
قبل وصولها إلى بيروت للعلاج حيث فقدت حليمة ذاكرتها وبالتالي وظيفة الطعام والكلام، أمضت أشهراً دون دواء يعالج جراحها الكبيرة، حتى خرج الدود منها. حليمة في بيروت تعالج ضمن حملة «صندوق الدكتور غسّان أبو ستة للأطفال». ابنة الست سنوات تعيش الغربة والألم في عينيها. لا تبتسم لمحاولات التودد والتقرّب إليها، فرعب الحرب يسكنها.
يُذكر أن فاطمة وعائلتها ووالدتها كانوا قد نزحوا من جباليا شمال غزّة إلى وسطها في الأيام الأولى للعدوان. تقول: امهات غزّة بتنّ وحيدات. ليس لهن القول «ولادي بيستروا آخرتي». أنجبت والدتي ستة رجال استشهد ثلاثة، وثلاثة مصيرهم مجهول. الأمهات في غزّة يصلين لدى سقوط البراميل المتفجرّة لأن لا تُقطع اجسادهم وأجساد أبنائهم أشلاء. بات الدعاء موت بجسد يعرفه الأقربون، وقبر يدفنون به. وتحولت باحات المستشفيات والمنازل إلى مقابر.
وتلفت فاطمة إلى ظاهرة يقوم بها اليافعون واليافعات في غزّة، وتتمثّل بإعداد أكياس النايلون الصغيرة عن سابق تصميم. يسألون دائماً عن أكياس. فعندما تسقط الأبنية وتتناثر الأشلاء، يعملون لجمعها. باتوا يدركون أهمية عدم ترك الأشلاء في العراء دينياً وإنسانياً.
كانت فاطمة في بحث حثيث عن علاج لأطفالها. فكبيرهم تعرّض لجلطة لافتقاده الدواء الخاص بالكلية. وإبراهيم يحتاج لمتابعة علاجه بعد اصابة بليغة، وكذلك حليمة. بعد جهود تمكنت من التواصل مع «صندوق الدكتور غسّان أبو ستة لعلاج الأطفال». ووصلت إلى بيروت.
عن الرعاية التطوعية التي تلقاها مع أطفالها في بيروت تقول فاطمة: أكثر مما توقعت. أخجل من اللطافة التي غمرونا بها، في المشفى أو مكان الإقامة. حين يصرخون في غزّة وفي لحظات الفجيعة البالغة أين العرب؟ سأقول لهم إنهم في بيروت.. إنهم في كل لبنان الذي ساندنا. ومن كافة الطوائف والمذاهب. أكرمني الله بأني مع أطفالي في بيروت. هنا غمرتنا الإنسانية والتقدير من كل من عرف هويتنا. يفصل غزّة عن لبنان الحدود الملعونة فقط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية