ثمَّة قناعة راسخة، سواء في الداخل اليمني أو خارجه، بأن المجلس الانتقالي الجنوبي لا يُحرِّك ساكناً من دون التشاور والتوافق مع دولة الإمارات، لا بل هي صاحبة اليد الطولى والتأثير النهائي على “الانتقالي”. من هنا، لم يكن ممكناً عدم تحميل أبو ظبي تداعيات قرار المجلس الانتقالي بإعلان حالة الطوارئ والإدارة الذاتية للجنوب الذي دام أسبوعاً قبل أن يجد نفسه مضطراً إلى العودة عن قراره الذي قال إنه “جاء من أجل تحريك المياه الراكدة في عملية اتفاق الرياض”.
قراءة مجريات الأحداث، منذ تمرّد المجلس على شرعية عبد ربه منصور هادي في عدن في آب/أغسطس 2019، وما سبقها من صراع علني ومكتوم بين الجانبين منذ تحريرها من أيدي الحوثيين قبل سنوات خمس، تنطلق من المسار السياسي لـ”الانتقالي” لإعادة انفصال الجنوب عن الشمال إيذاناً بانتهاء حقبة من الوحدة اليمنية التي تحققت عام 1990. وهو مسار يُناقض مخرجات الحوار الوطني الشامل التي نصَّت على دولة اتحادية من ستة أقاليم، لكنه يُعبِّر عن حلم جزء من الجنوبيين.
ومنذ إنشاء “التحالف العربي” الذي تقوده السعودية وتُشكّل الإمارات شريكاً رئيسياً فيه، وجد “الانتقالي” لدى قيادات أبو ظبي دعماً لهذا المسار، عكس الرياض التي تتمسَّك بوحدة اليمن ولا تستسيغ مشاريع انفصالية، ولا سيما أن الأولوية راهناً هي لتوحيد الصف لاستعادة صنعاء من الحوثيين وتمكين سيطرة الشرعية على الأراضي اليمنية.
تباين جوهري في الموقف الإماراتي-السعودي حول الجنوب، فيما الرياض منشغلة في الشمال اليمني باستهداف الحوثي لحدودها في حرب استنزاف قاسية وإطلاق مسيَّرات فوق أراضيها وصواريخ بالستية إلى عمق مناطقها. وهو تباين فتح الباب أمام “المجلس” لتحيّن الفرص لمراكمة مكاسب على طريق تحقيق حلم الانفصال، في حسابات مدروسة للتوقيت والظروف، تحت سقف عدم انتكاس العلاقة بين الحليفين السعودي-الإماراتي.
هذا ما حصل في معركة عدن بين الشرعية و”الانتقالي”. تدخلت الرياض لحصر الأضرار، فكانت التسوية التي أفضى إليها “اتفاق الرياض” في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، الذي أعاد رسم نفوذ الجانبين عبر سلسلة من الترتيبات السياسية والاقتصادية والعسكرية وفق جدول زمني. ارتكزت التسوية على حرف “الانتقالي” عن هاجس الانفصال، من خلال تكريس شراكة المناصفة في الحكومة بين المحافظات الشمالية والجنوبية ضمن الترتيبات السياسية. تحوَّل الخلاف بين الشرعية و”الانتقالي” إلى أسبقية الترتيبات السياسية والعسكرية، بحيث شكّل أداة عرقلة يتهم كل طرف الآخر به، لكنه خلاف أبقى الجمر تحت الرماد.
يقول أحد السياسيين الجنوبيين المؤيدين لهادي، إن الحكومة الشرعية عملت على تحريك قواتها في المعسكرات المحيطة بعدما تخلّف “المجلس” عن تسليم السلاح وفق ما تنص الإجراءات العسكرية، لكن الرياض أثنتها عن تلك الخطوة، تفادياً لتطوُّر الصراعات اليمنية-اليمنية من جهة، ورغبة منها في عدم حدوث أي توتر في العلاقة بينها وبين أبو ظبي حول الملف اليمني.
تسلّل المجلس الانتقالي من خلال الموقف السعودي، فحوّله إلى فرصة مع أزمة السيول، وأعلن حال الطوارئ والإدارة الذاتية لمحافظات الجنوب بذريعة تدهور الأوضاع الاقتصادية والخدمية وسوء أحوال المواطنين وفشل الدولة في القيام بمسؤولياتها الأخلاقية والوطنية والفساد القائم، وخفوت أي بارقة أمل في تنفيذ اتفاق الرياض.
استفاد من انشغال الدول بجائحة كورونا والأزمات الاقتصادية الناشئة عنها، فالظروف الخارجية قد تكون مؤاتية لسياسة القضم وتكريس وقائع جديدة. وقد تكون كذلك إذا لم يشعر المجلس أن منسوب الرفض الأممي جدي وكبير، وكذلك الغضب السعودي. على الدوام، كان السعوديون يقولون إن أي تباينات في وجهات النظر بين أعضاء تحالف دعم الشرعية في اليمن تُحل ضمنه، وكان يُقصد بذلك التباين السعودي-الإماراتي.
يرى السياسي اليمني المؤيد لشرعية هادي أن الحكومة أخطأت في عدم تحركها سريعاً ضد “انقلاب المجلس الانتقالي” فلو فعلت، لكانت سجلت نقاطاً لصالحها، واستطاعت أن تستعيد ما خسرته في عدن، ولا سيما أن كثيراً من الجنوبيين معها. كما أنها ما كانت لتواجه أي ضغوط لوقف عمليتها العسكرية في ظل التنديد الدولي والسعودي والعربي بخطوة الانتقالي، إلا أنه يُعرب عن خشيته من أن تكون قد خسرت هذه الفرصة الثمينة.
حين سأل أحد المتابعين مسؤولاً إماراتياً عن خطوة “الانتقالي” جاءه الرد بأن الخطوة اتخذها “الانتقالي” بشكل تفردي، وأن القيادة الإماراتية لم تكن في هذه الأجواء، وهي أصلاً ليست في وارد تغطية هكذا عملية، إذ ستضعها في واجهة المسؤولية، ليس السياسية والعسكرية والأمنية فحسب، بل المالية والاقتصادية والاجتماعية خصوصاً في هذا الظرف، حيث لا تزال أحياء عدن المتضررة من السيول على حالها، وحيث جرس إنذار كورونا يدق بسرعة، مع تفشي الأوبئة في العاصمة الاقتصادية، وحيث ثمّة محافظات أقفلت أبوابها أمام العدنيين مخافة نقل الأمراض.
لكن المتابع العربي يرى أن ما فعله “المجلس الانتقالي” صبّ الأنظار على أبو ظبي، انطلاقاً من القناعة بتأثير الإمارات على شريكها على الأرض، والذي يُدرج في خانة الميليشيا المدعومة منها، خارج الأطر الشرعية. وقد أتت خطوة “الانتقالي” بعد “خطوة جنونية” للواء خليفة حفتر في ليبيا الذي أعلن إلغاء “اتفاق الصخيرات” وقبوله “تفويض الشعب الليبي” لحكم البلاد، وهي خطوة رفضها مجلس الأمن وغمزت مناقشاته من قناة مسؤولية القيادة الإماراتية عنها. فكان لا بد من تفلت “الانتقالي” من “دعسته الناقصة” وإعلان تراجعه عن الحكم الذاتي، بحيث تُزيح الإمارات عن ظهرها السهام الدولية ولو إلى حين!