ثمة تساؤل مهم يثار حول نتائج الانتخابات الجزئية التي أجريت على وجه الخصوص في كل من الحسيمة ومكناس، فالأصل أن هذه الانتخابات لا تحمل وزنا سياسيا كبيرا من جهة قيمة المقاعد التي سيحصلها أي حزب، وأثر ذلك على موازين القوى القائمة، فأحزاب الأغلبية، سواء كسبت هذه المقاعد أم لم تكسبها، فالأمر لا يغير من وزنها الانتخابي والسياسي شيئا، وحزب العدالة والتنمية لن يضيف له مقعد أو مقعدان شيئا، وهو الذي لا تتجاوز عدد مقاعده في مجلس النواب 13 مقعدا.
لكن مع ذلك، يبدو أن صدور النتائج قد أجج الصراع بين العدالة والتنمية وبين وزارة الداخلية، فأصدر الحزب بلاغا ينتقد فيه خروقات على الجملة كان أخطرها إغراق دائرة انتخابية قروية (الدخيسة بإقليم مكناس) بالمصوتين حتى صارت نسبة المشاركة بها تتجاوز 72 في المائة، وهي النسبة التي لم تسجل في كل الدائرة الانتخابية، بل بقيت نسبة المشاركة في عموم الدوائر لا تتجاوز 10 في المائة باستثناء تسجيل دوائر محدودة لنسبة فوق ذلك لا تتجاوز 22 في المائة. وزارة الداخلية أصدرت على التو بلاغا تتهم فيه الحزب وقيادته (دون تسمية) بالإغراض والتغطية على فشله الانتخابي، بسبب لجوئه إلى أسلوب الطعن في العملية الانتخابية، معتبرة أن ذلك يشكل مسا بالعملية الديمقراطية وتشويشا عليها، وهو ما جعل الأمين العام للعدالة والتنمية يخرج إلى وسائل الإعلام عبر حائطه الفايسبوكي بكلمة يتفاعل فيها مع بلاغ وزارة الداخلية ومع وزير الداخلية شخصيا، معتبرا أن رده غير لائق، وأنه يتضمن في الجوهر منعا من الحق في الكلام، ويعطي إشارة إلى وجود جهات تريد الرجوع إلى عهد البصري، الذي أقسم الملك محمد السادس بعدم العودة إليه.
في الواقع، لا يهمنا كثيرا المضامين التي وردت في كلمة الأمين العام للعدالة والتنمية وبلاغ أمانة حزبه، ولا ما ورد في بلاغ وزارة الداخلية، بل ما يهمنا على وجه الخصوص ما يعبر عنه هذا الصراع، وهل يؤشر ذلك على بداية لحظة أخرى من تاريخ المغرب السياسي عنوانها الصراع على الديمقراطية من داخل صيغة الاعتدال السياسي، أو إنهاء الإسلاميين من المشهد السياسي.
خلافا لحقيقة الانتخابات الجزئية وطبيعتها ومحدودية ما تحمله من وزن وقيمة سياسية، فهذه الانتخابات كانت تعني الكثير بالنسبة إلى جهات مؤثرة في السلطة، وربما كانت بعض أحزاب الأغلبية الحكومية، تريد منها الحصول على شرعية جديدة، تجيب بها على الحملة العارمة التي انطلقت على وسائل التواصل الاجتماعي بوسم «عزيز أخنوش ارحل» والتي تجاوزت مليونا ونصف المليون، ولا تزال تستقبل مزيدا من المؤيدين.
رسائل بعض الجهات في السلطة، كانت موجهة إلى العدالة والتنمية، وإلى أمينه العام على وجه الخصوص، ومضمونها أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال إعادة سيناريو 25 نونبر 2011، بانطلاق حراك احتجاجي عارم، لا يستطيع واقع الفراغ السياسي مواجهته، مما يصب في خانة هذا الحزب المنظم الذي يستجمع عناصر قوته مع أمينه العام الجديد. ثم رسالة هذه الجهات أيضا، ألا تمنح هذا الأمين العام شرف الفوز في أول انتخابات يشارك فيها الحزب في ولايته، حتى لا يترسخ الانطباع بعودة عهد الانتصارات الانتخابية لعبد الإله بن كيران.
الرسالة الثالثة، أن هزيمة الإسلاميين، واحتفاظ أحزاب الأغلبية بمقاعدها، يعني أن الحراك الافتراضي هو مصنوع ومزيف، ولا يمت بصلة إلى الواقع، وأن الواقع الحقيقي هو ما كشفت عنه صناديق الاقتراع في هذه الانتخابات الجزئية.
الجدل داخل السياق المغربي يختلف بشكل كبير عنه داخل السياقات المشرقية، بل حتى داخل السياق التونسي، ففي السياق المغربي ثمة دائما استنجاد بالملك باعتباره حكما بين الأطراف
ما يؤكد هذه الرسائل هو أن وزارة الداخلية أحالت في مفردات بلاغها إلى انتخابات 8 شتنبر، وذكرت بفشل الحزب فيها، ونددت بسلوكه الرافض لها (قال الحزب إن النتائج غير مفهومة ولا تعكس واقع الحزب وتمثيليته في المجتمع) وانخرطت في تفسير خلفيات موقف الحزب، واتهمته بالمس بالعملية الانتخابية وبالمسار الديمقراطي.
ردود العدالة والتنمية تجنبت أي عبارات للطعن السياسي المباشر في العملية الانتخابية، واكتفت بالحديث عن خروقات، وطالبت وزير الداخلية بتفسير الإغراق التي تعرضت له دائرة الدخيسة، معتبرة أن من واجبه بمقتضى الحياد الذي يفترض في وزارته، أن يفتح تحقيقا في الموضوع، على اعتبار أن نقد العدالة والتنمية لم يقل بوجود سياسة ممنهجة لوزارة الداخلية، وإنما تحدث عن سلوكات لبعض أعوانها.
ما يستوجب التوقف في الجدل الدائر بين الطرفين، هو أن النقاش استدعى مفردات من قبيل (حل الحزب أو إنهاء دوره) و(النضال من اجل نزاهة العملية الانتخابية وحياد الإدارة الترابية) و (الحق في الكلام) و (الخشية من عودة عهد البصري) و (المس بالعملية الانتخابية والمسار الديمقراطي).
بالتأكيد الجدل داخل السياق المغربي يختلف بشكل كبير عنه داخل السياقات المشرقية، بل حتى داخل السياق التونسي، ففي السياق المغربي ثمة دائما استنجاد بالملك باعتباره حكما بين الأطراف، وثمة أيضا خطاب مختلف من قبل إسلاميي المغرب، فخطابهم (سواء كلمة الأمين العام أم بلاغ الأمانة العامة) لا ينخرط في مناكفة سياسية مع السلطة، وإنما عن دور مهم في الحقل السياسي، يتمثل في تقوية الوساطة بين الدولة والمجتمع، وأن السلطة إن لم تكن راغبة في هذا الدور، فإن الحزب مستعد للتوقف عن القيام به، وترك مساحة الاحتكاك مفتوحة بين المجتمع والدولة.
الجانب الثاني في خطاب العدالة والتنمية، يبدو فيه -في الظاهر- يسائل النخب العليا عن قيمة الفوز الذي يمكن أن يحققه في هذه الانتخابات (لن يؤثر في موازين القوى القائمة) وسبب السلوك الإداري المنافي للجوهر الحياد وللجوهر الديمقراطي لمجرد أن ما يؤطره هو منع العدالة والتنمية من تحقيق هذا الفوز الرمزي. لكنه في الجوهر يفتح قوسا جديدا في المشهد السياسي عنوانه، أن المرحلة القادمة، ستكون مفصلية، وأن الحزب سيوجه نضاله إلى تحصين العملية الانتخابية، من تدخل الإدارة، وأنه لا يتخوف من سياسات إنهاء دوره السياسي، لأنه جاهز لهذا الخيار، لأن جوهر دوره هو الوساطة، وأنه في الحالة التي سيحال بينه وبينها، فإن ذلك سيعزز التوجه نحو الاحتكاك المباشر بين المجتمع والدولة.
التقدير أن رسالة العدالة والتنمية قد وصلت، بالاعتدال اللازم، وأن وزارة الداخلية لن تقدم على أي رد جديد، وأنه من الممكن فتح قنوات للتهدئة، وترك المساحة لجهاز القضاء ليحسم في الطعن الانتخابي الذي سيتقدم به الحزب، وأن الأفضل إبعاد ما هو سياسي في الصراع بينها وبين العدالة والتنمية، وذلك لثلاثة أسباب، الأول أن استمرار هذا الصراع، يمكن أن يكبر كرة الثلج، تستثمره بعض الأطراف الأجنبية ضد مصالح المغرب الحيوية، والثاني، أن المغرب يستقبل في نهاية هذا الشهر مناسبة وطنية كبيرة ورمزية (عيد العرش) وهي لا تتحمل استمرار هذا الصراع، لأن من شأن ذلك أن يحمل رسائل أخرى، وأما الثالث، فهي أن هذه الانتخابات الجزئية، لا تحتمل أن ينتج عنها صراع سياسي بهذا الحجم، تدور طرفا معادلته بين كسب معركة النضال الديمقراطي أو إنهاء الإسلاميين من المشهد السياسي.
التقدير أن دور الإسلاميين سيبقى مستمرا في عهد الملك محمد السادس، وربما يدفع هذا الصراع النخب العليا للتفكير في صيغة أخرى أكثر اعتدالا في التعامل معه بدلا من سياسة حذفه من الخارطة انتخابيا وسياسيا.
كاتب وباحث مغربي
دور الوساطة التي يتحدث عنها المقال ، يجب أن نوضح أنه يعني في القاموس السياسي المغربي ، دوليبران، أو المسكن ، بمعنى آخر أكثر وضوحا
امتصاص غضب الشعب والتنفيس عليه مع استمرار نفس النهج والسياسة مع بعض الرتوشات. ولنكون عادلين ، لقد نجح الحزب بامتياز في هذا الدور حتى اكتشف المغاربة أنهم كانوا مخدوعين لولايتين كاملتين نتيجة للخطاب المزدوج للحزب وسياساته الإصلاحية الكارثية ضدا على حسابهم التي فاقمت ضيق معيشتهم . الدولة المغربية لا تنسى خدامها، والدولة لا تريد إنهاء الحزب من المشهد السياسي، لأن هذا ليس من مصلحتها حتى لا يتقوى الخطاب الإسلامي الراديكالي والعصي عن التطويع ، جماعة العدل والإحسان كنموذج ، لكنها لن تعيد أبدا تجربة العدالة والتنمية. الكاتب أعلم الناس كيف تسير الأمور في مغربنا الكبير . عاش الملك
ثمة معطى فقدان حزب العدالة والتنمية لما يقارب 90% من مقاعده في مجلس النواب في الإنتخابات الأخيرة مما يصعب تفسيره فقط بمحاصرة السلطة له, لأن فقدان هذا العدد من المقاعد لم يسجل التاريخ الحديث له نظيرا في أي بلد ءاخر! ثمة أيضا حقيقة أخرى: فإن صح أن السلطة استعملت هذا الحزب لتجاوز فترة عصيبة كانت تمر بها خلال احتجات الربيع العربي ثم أزاحته من المشهد بهذا الشكل فإن ذلك مؤشر على هشاشة هذا الحزب وبالتالي فهو غير مؤهل للمراهنة عليه مستقبلا في أي مشروع للتغيير. الظاهر أن حزب العدالة والتنمية أصبح كبعض الأحزاب الإدارية ينحصر دوره للأسف في الساحة السياسية في لعب أدوار ثانوية.
في اعتقادي أفول نجم تيار العدالة والتنمية يرجع لعوامل ذاتية أكثر منها موضوعية، لا شك أن أي حزب سياسي يحاول أن يزاحم الدوائر النافذة وينتزع منها نصيبا ولو محدودا من السلطات التي تستفرد بها يجد نفسه معرضا للمضايقة والإختراق ثم الإنهاك والتهميش، لكن تبقى العوامل الداخلية للحزب السياسي المستهدف حاسمة، العدالة والتنمية إتخذ مواقف متضاربة أفقدته الكثير من مصداقيته وشعبيته، فعلى سبيل المثال لا الحصر يرى بعض قياداته أن الملكية البرلمانية مسلك ءامن للإصلاح السياسي كما عبر عن ذلك مرارا أحد نوابه بالمنطقة الشرقية، فيما لا يفتر الأمين العام للحزب عن التصريح بأنه يرفض نموذج الملكية البرلمانية جملة وتفصيلا، حين تم إزاحة السيد ابن كيران عن رئاسة الحكومة وتعيين السيد العثماني تضاربت المواقف داخل صفوف الحزب بين مندد ومهادن، في قضية التطبيع رفض الجناح الدعوي للعدالة والتنمية الإنخراط في التطبيع وتبرأ منه فيما انبرت قيادات أخرى تبرر له وتصوغه، كذلك الأمر بخصوص ملفات عديدة منها فرنسة التعليم الثانوي و ترخيص زراعة القنب الهندي..هذه الضبابية في الرؤى والمواقف وتبني اختيارات تعاكس الإرادة الشعبية أفقد العدالة والتنمية رصيد الثقة والدعم الذي منحته سابقا قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى في البلد.
المتابع للشأن المحلي يستغرب إعطاء المقال حزب سياسي له أقل من 4% من عدد مقاعد البرلمان ثقل سياسي يتجاوز حجمه بكثير حين يصف الكاتب خلاف هذا الحزب مع الدولة بقوله : (أن استمرار هذا الصراع، يمكن أن يكبر كرة الثلج، تستثمره بعض الأطراف الأجنبية ضد مصالح المغرب الحيوية، والثاني، أن المغرب يستقبل في نهاية هذا الشهر مناسبة وطنية كبيرة ورمزية (عيد العرش) وهي لا تتحمل استمرار هذا الصراع…) الواضح أن الدولة اليوم لا تلتفت لمشاكسات سياسية هامشية في الوقت التي تصب اهتمامها على أولويات استراتيجية منها مشكلة النزاع المفتعل على الأقاليم الصحراوية وانكماش الاقتصاد الوطني عقب جائحة كورونا واندلاع حرب اوكرانيا مع ارتفاع ثمن الغاز والنفط، ثم الخوف من اتساع السخط الشعبي بسبب ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية… أما صناعة خارطة سياسية جديدة فهي على الرف إلى حين اقتراب الموعد الانتخابي القادم.
ما عاد خطاب المساومة والاستجداء يعطي أكله كما كان الحال سابقا لما كان الحزب يلعب دور محوري في الساحة السياسية لذلك لا اعتقد ان تصريحات من قبيل: *إن السلطة إن لم تكن راغبة في هذا الدور، فإن الحزب مستعد للتوقف عن القيام به، وترك مساحة الاحتكاك مفتوحة بين المجتمع والدولة…* أو *حل الحزب وانهاء دوره* تبقى صيحة في وادي ولا جدوى من ترديدها لأن هذا الحزب لم يعد يملك أوراق ضغط فاعلة يمكنه استعمالها، التلويح بضرورة وجود حزب سياسي بعينه يلعب دور الوسيط بين الدولة والشعب بدل لعب دوره الشرعي المتعارف عليه في كل أقطار العالم بنيل ثقة الناخبين ثم أخذ السلطة عبر حكومة منتخبة وأغلبية برلمانية ليكون هو الموجه للدولة وليس العكس هي قصور ءاخر في الوعي السياسي والالتزام بمبادئ الشفافية والنزاهة لدى البعض.
مع كامل احترامي للكاتب وحبي له إلا أن انتمائه الحزبي حاضر في تحليله. الأرباح التي ترتع فيها حاليا شركات المحروقات وعلى راسها إفريقيا هي نتيجة للسياسة الفاشلة للحزب السابق العدالة والتنمية. وحتى لو أسقطت الحكومة الحالية سواء باحتجاجات أو بالدستور فلم يعد هنا بالمغرب وفي حكومته موطئ قدم لهاته الأحزاب السائدة. الأحزاب تريد الحفاظ على الواقع لأنها تستفيد منه ويبقى المتضرر الوحيد وهو الشعب ان يسعى لتغيير الجو العام الذي تستفيد منه اللوبيا والفاسدين.