إسرائيل دولة تمارس الإرهاب وتعاني منذ نشأتها من معضلة الإقليم، الذي عبثا تحاول أن تتجاوزه كمقوم جوهري في تشكيل الدولة الحديثة والمعاصرة. بين مفردة الإقليم (territoire) ومفردة الإرهاب (terrorisme) في القواميس الغربية يكاد يكون جذرا لغويا واحدا، وأن الصلة تزداد وتشتد عندما تسند التصرفات الوحشية والإجراءات القمعية إلى دولة لا تشبه الدول.
في سياق صور ومشاهد الرعب والقمع والإرهاب، الذي يراه الجميع في قطاع غزة، تتوارد مناظر مأساوية سيحفظها لنا تاريخنا المعاصر، فلحظة رؤية غزة وهي تحترق وتدفن شهدائها ويهجَّر أهلها وتعاني ويلات الحرب، هي لحظة تدمير لإقليم لا تريد إسرائيل أن تراه، بعد ما صارت الصورة واضحة وكاملة. وبتعبير آخر يفيد المعنى نفسه أن المشهد المروع الذي تصنعه إسرائيل في غزة هو من النوع الذي يقدم الحدث مكثفا مع تاريخه، وأن لا شيء يأتي من فراغ ومن سياق مجاني. كل شيء مرتبط وله علائق وصلات.. وما يجري في غزة هو إرهاب دولة يضايقها الإقليم وينغص عليها لحد الانتحار.
عندما يكون الإقليم محَدّد جوهري في الدولة الحديثة والمعاصرة، فإن دولة الإرهاب تخشاه وتعمل على تقويضه وهدمه، للآخرين الذين تزاحمهم الإقليم وترفض أن تسميه إقليما أصلا، بل الضفة الغربية وقطاع غزة.. ومن هنا عقدة «الإقليم» في حياة دولة إرهابية يطلق عليها «إسرائيل». فما يجري في غزة من مشاهد يوم القيامة يربط الصلة حالا وفورا بين الإرهاب والإقليم، ويجعل هذا الأخير المعضلة القاتلة في حياة اليهود، ومن يناصرهم ظلما ونفاقا في احتلال أرض غيرهم. إن الإقليم، الذي لا يعد إقليما إلا بتوفر السيادة التي تمارس عليه، ترفضه إسرائيل وتمنعه على الفلسطينيين لأنها ببساطة شديدة قامت على الإرهاب الذي يتغذى دوما من هاجس الإقليم وكوابيسه.
عندما تسعى إسرائيل إلى احتلال للأرض الفلسطينية وضمها إلى مستوطنات سكانها أجانب وغرباء، فما هو إلا تأجيل رد فعل قادم أكثر مشهدية وشدة مما جرى يوم السابع من أكتوبر
ما يعرف عن الكيان العِبري أنه قام على فكرة/ مشروع دولة مفتوحة بإقليم غير محدد، على خلاف ما يجب أن يتم في الدولة الحديثة والمعاصرة. إننا نعيش التاريخ المعاصر وعالمية التاريخ وتلقائيته، ولا يمكن أبدا أن نطمس أي أثر أو حدث أو واقعة مهما كان. واليوم مع غزة الشهيدة والحية في الوقت، نحضر الصورة كاملة والمشهد الحي الذي لا يزول من الذاكرة، بل يستحضر كل ملكات الحفظ والاستذكار مع التاريخ، ويتوضح لنا أن ما يجري في قطاع غزة المنهوب، هو صراع إسرائيل القاتل مع مقوم الإقليم، الذي عبثا تحاول أن تلغيه أو ترحّل أهاليه. وهكذا، عندما نمعن النظر ونقَلِّب الفكر في موضوع دولة الإرهاب ننتهي إلى حقيقة الصلة المتينة بين الإقليم والإرهاب، وأن هذا الأخير في تجربة حكم الصهاينة هو سند تستبطنه المؤسسات الأمنية والعسكرية والمخابراتية، وتنفرد به لنفسها، حتى يتسنى لها إمكانية حرمان الآخرين من مقوم الإقليم، كشرط لا بد منه من أجل البناء القانوني والشرعي للدولة الفلسطينية الكاملة.. ولعلّ هذا الربط بين الإقليم والإرهاب، هو الذي يبطن السؤال القاتل لإسرائيل ذاتها.. هل عندما يفشل الكيان العِبْري ـ على ما تقدمه الإرهاصات الأولى المقبلة من غزة ـ في التخلي عن الإرهاب كعقيدة إجرامية مؤسساتية تسقط الدولة نفسها؟ ذلك هو السؤال الذي يطرح على الغرب وليس على العرب؟ لأن العرب في ديارهم، وعلى الغرب أن يعزي اليهود مرة أخرى بسبب خطئهم في تحديد إقليم الصهاينة، لما بعد نشأة هيئة الأمم المتحدة، لأنها عابرة للأمم وتتجاوز الدول، ولا يمكن أن نَتَجَاوزها مهما كانت قوة الدولة على ما تفعل إسرائيل وعرّابها الأول أمريكا.
المفردة الثالثة التي لها صلة بالإقليم والإرهاب في القاموس الفرنسي ( Terroir) التراب الذي يقترب عند قاطنيه بالتراث، لأنه يكثف ويَثْوي صلتهم التاريخية به، ولا يمكن بحال أن نفصل الصلة بينهما، لأن هوية وكينونة السكان تتحدد بالإصالة وليس بالنيابة لغيرهم، ومن الاستحالة بمكان، ومهما كان، أن تسحق الأرض الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص غزة لأن تاريخها المعاصر أقوى بشكل مطلق من كل ما جرى في فترات زمنية سابقة من مواجهتها للاحتلال الإسرائيلي وتزكية الغرب له، فتاريخ المقاومة هو الذي يضيف إلى التراب والأرض الخاصية الفلسطينية وحماية مسارها العربي والإسلامي. نعرف جيدا من خلال الدرس التاريخي أن اللحظة المعاصرة التي تأتينا من حرب غزة، تعبر التعبير البليغ عن اللحظة الأبدية، حيث يحيا الإنسان وهو يدرك أن الموت لحظة أيضا من الحياة. إن الأرض المحلية وتراثها وعَبَقها هي التي يقصد بها terroir، وأن ما يصنع فيها من بطولات ومنتجات وخبراتها تحال على أصحابها لتزيدهم متانة وصلابة بها. وعندما تسعى إسرائيل إلى احتلال متواصل ومتتالٍ للأرض الفلسطينية وضمها إلى مستوطنات سكانها أجانب وغرباء، فلن تعمل في حقيقة الأمر إلا على تأجيل رد فعل قادم أكثر مشهدية وشدة على ما جرى يوم السابع من أكتوبر الماضي. لأن التراب لا يمكن اغتصابه. فالأرض بمعناها المحلي الذي لا يفصم عن أهلها لا تقبل الزوال والمحو والطمس، على خلاف مفهوم الإقليم الذي جرى نهبه وانتزاعه من الغير الذي يجب أن ينتظر نهايته المقبلة، على ما يحدث اليوم بالنسبة لإسرائيل حيث الكل يتحدث بمصطلحات موت إسرائيل وملامح زوالها وإرهاصات انتحارها. وخطاب من هذا النوع حيال إسرائيل ليس مجانيا، بل حقيقة لها ما يبررها لأن عناصر تشكيل الكيان الصهيوني من النوع الذي يجب أن ينتهي، كما انتهت الكيانات الاستعمارية في ظل وجود هيئة الأمم المتحدة.
تاريخ إسرائيل ووكيلة الغرب في المنطقة العربية، هو تاريخ اعتداء وانتهاك واستيلاء على أراضي الغير، لا تلبث وأن تتأكد من عدم قدرتها على التجاوب والتفاعل والانصهار فيها، لأنها لا تريد أن تدفع ضريبة الدم كأفضل ما يروي ويسقي التراب لكي يتحول من terroir إلى territoire، أي من الأرض التراثية إلى الإقليم السياسي، الذي تعترف به الأمم المتحدة ويقبله الوعي السياسي المعاصر، وبديلا عن ذلك، فإن الكيان العِبري عمد إلى الإرهاب وهو تصرف غريب عن جسد وعقل الدولة الحديثة والمعاصرة، ولا تتوسَّله إلا الأنظمة التي تشعر بأنها غريبة عن الأرض كتراب وتراث وتاريخ ثقافي محلي. وعليه، أو هكذا يجب أن نخلص من معضلة الإقليم في وجود وغياب الاحتلال الإسرائيلي، أن الإقليم يضايق وينغص عليها، وأن كل محاولة تسوية مع الغير يجب أن تدفع ما اغتصبته، على ما فعلت مع مصر والأردن ولبنان وهي اليوم تعاني الرمق الأخير: كيف تتعامل مع الأرض الفلسطينية، كآخر مواجهة مع الذات.
كاتب جزائري