في مقابلة مع صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية قال رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف (إن إيران مستعدة للتفاوض مع فرنسا لتطبيق القرار 1701)، وهو قرار اتخذ بالإجماع من قبل مجلس الأمن الدولي في 11 آب/أغسطس 2006، لحل النزاع اللبناني الإسرائيلي. وبعد يومين من تصريحه هذا أضاف تصريحا آخر أن (الركيزة الأساسية للشعب اللبناني هو المرشد علي خامنئي والمسؤولون والشعب الإيراني) ما أضطر رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي للرد قائلا، (نستغرب هذا الموقف الذي يشكل تدخلا فاضحا في الشأن اللبناني، ومحاولة لتكريس وصاية مرفوضة على لبنان). وأضاف (أن موضوع التفاوض لتطبيق القرار رقم 1701 تتولاه الدولة اللبنانية، ومطلوب من الجميع دعمها، لا السعي لفرض وصايات جديدة مرفوضة بكل الاعتبارات الوطنية والسيادية). فما الدوافع الكامنة وراء تصريحات رئيس البرلمان الإيراني؟
هناك حقيقتان أساسيتان في الواقع اللبناني، الأولى هي أن زعامة حزب الله قالت منذ أمد بعيد وعلنا بأن تمويل وتسليح وكل نفقات الحزب هي من إيران، وبذلك لا يمكن القول إن الحزب ليس وكيلها في لبنان. والحقيقة الثانية هي أن الحزب بات دولة داخل الدولة، وأن ما يملكه من قوة مادية ومعنوية فاقت ما تملكه الدولة اللبنانية، وهو بهذه القوة قد صادر قرار الدولة اللبنانية وشرعيتها، على اعتبار أن شرعية الدولة تأتي من احتكارها لوسائل القوة. وبما أن الواقع يقول إن حزب الله هو أحد وسائل نفوذ إيران، فإن هذه الأخيرة باتت تنظر إلى هذا البلد على أنه دولة حزبها، ومن حقها أن ترسم سياساته وتتدخل في شؤونه. ولأن تراجعا كبيرا حصل في دور الحزب في الساحة اللبنانية، من جراء الحرب مع إسرائيل، ومقتل الكثير من قياداته من الصف الأول وما يليه، فإن طهران باتت مضطرة إلى التدخل بشكل مباشر في الحراكات السياسية الداخلية والخارجية، التي تجري بخصوص لبنان للحفاظ على نفوذها هناك، حيث المخاوف من أن تفضي تداعيات الحرب إلى منعطفات لافتة في المشهد السياسي اللبناني تُفقد نفوذ ذراعها فيه.
صانع القرار الإيراني يرى أن لطهران الحق في لعب دور في ما يتعلق بالصراع الدائر اليوم في المنطقة، باعتبار أن ذلك يمس أمنها وسلامتها لان أذرعها باتت مهددة
قد يقنع البعض بما قاله الجانب الإيراني من أن تصريحات قاليباف قد فُسّرت بغير معناها، وأن رئيس البرلمان الإيراني لم يقصد ذلك، وهذه كلها تخريجات دبلوماسية للتغطية على حديث كان واضحا وصريحا من قبل المسؤول الإيراني. فصانع القرار الإيراني يرى أن لطهران الحق في لعب دور في ما يتعلق بالصراع الدائر اليوم في المنطقة، باعتبار أن ذلك يمس أمنها وسلامتها لان أذرعها باتت مهددة من قبل إسرائيل والولايات المتحدة. وما قاله رئيس البرلمان يُعبر عن رغبة طهران في تأكيد استمرار هيمنتها على القرار اللبناني، وإرسال رسالة واضحة بأن اغتيال إسرائيل لقيادات الصف الأول في حزب الله، لا يعني بأي حال من الأحوال تخليها عن مشروعها الأيديولوجي في لبنان، الذي بدأت بتطبيقه منذ ما يزيد من عقود ثلاثة، وبذلك فهي تريد اليوم قيادة الجبهة العسكرية في جنوب لبنان، وكذلك قيادة العملية الدبلوماسية الدائرة بخصوص وقف إطلاق النار، وحتى عندما حاولت طهران تلطيف تصريح قاليباف، قال المصدر المقرب من رئيس البرلمان (إننا مع ما ترتأيه الحكومة اللبنانية والمقاومة)، وهنا يبدو واضحا أن طهران تنظر إلى حزب الله على أنه خارج عباءة السلطة والدولة اللبنانية، لأنه لم يتحدث فقط عن ما ترتأيه الدولة اللبنانية، بل وما يرتأيه حزب الله أيضا، وهذا يعني دفع الحزب كي يصطدم بالحكومة اللبنانية ولا يقبل الانصياع لقراراتها. وهنا سيتم الاعتراض من قبل البعض بالقول، لماذا حديث إيران عن لبنان يُعتبر مرفوضا وخارج السياقات والأعراف الدولية، بينما حديث فرنسا لا يتم الاعتراض عليه أيضا، لكن ما يغيب عن بال المُعترضين هو أن فرنسا تتحدث مع جميع اللبنانيين وليس مع جهة أو طرف واحد وحتى مع حزب الله، ولدى الحزب وزراء في الحكومة اللبنانية يحملون الجنسية الفرنسية. كما أنها لا تملك ميليشيات مسلحة تُصادر بها الدولة وتشكل منها دولة داخل الدولة كما تفعل إيران، هي لديها قوى ناعمة تؤثر بها على السياسة اللبنانية والتأثير بالقوى الناعمة في العلاقات الدولية معروف ومقبول. وهي مؤخرا عقدت اجتماعا دوليا للمانحين جمعت من خلاله ما يقرب من مليار دولار لمساعدة لبنان في الظرف الحالي، كانت حصتها فيه أكثر من 100 مليون دولار، لهذا الشأن وهذه قوة ناعمة مؤثرة في الواقع اللبناني، لكن طهران تؤثر بالقوى الصلبة فتُجهّز أذرعها في الدول بالطائرات المُسيّرة وبكل أنواع الصواريخ والتدريب والتسليح، وهذا مرفوض تماما في القوانين والأعراف الدولية. وهنا يبدو واضحا أن المساعي الإيرانية تختلف كُليا عن مساعي الآخرين، لأنها تنظر إلى بعض الدول في المنطقة على أنها جزء من أراضيها أو ساحات متقدمة لصراعاتها مع القوى الكبرى على أقل تقدير. كما أن علاقة طهران بلبنان ودول أخرى كالعراق واليمن وسوريا، ليست علاقة دولة بدولة، بل علاقة دولة مع ميليشيات مسلحة تشكل دويلة داخل الدولة. لكن هذا المشهد الواضح في لبنان لا يعفي ساسته من مسؤولية صناعة هذا الواقع، وتهيئته كمسرح تُظهر طهران وباريس وواشنطن وغيرها من الدول بطولاتها على خشبته.
ليس المطلوب أن يكون هناك تدخل من المجتمع الدولي لحماية لبنان، أو متابعة أموره، بل المطلوب من القيادات السياسية في لبنان أن تقوم بدورها بمسؤولية تامة، ومن ثم ينعكس ذلك في النظام السياسي اللبناني على مستوى أداء السلطات والمؤسسات الدستورية ليكون لبنان دولة ذات سيادة. وبالتالي يلعب دورا في المحيطين الإقليمي والدولي، وينتج ما يجب أن ينتجه كدولة موجودة في هذا الحيز الجغرافي على مستوى الشرق الأوسط وفي الساحة الدولية. إذن الخلل بالدرجة الأولى موجود في التركيبة السياسية اللبنانية، وما يحصل اليوم من تدخلات هو عمليا موجود ومستمر منذ عقود، فلبنان كان دائما يذهب إلى الخارج بشكل أو بآخر حتى في المحطات السياسية التي كانت فيها تسويات في الملف اللبناني. هذا يدلل بالمجمل على أن هناك إشكالية ترتبط بالقيادات السياسية التي تدير الشأن العام في لبنان، لذلك المطلوب بالدرجة الأولى هو تنظيم البُنية السلطوية في لبنان وبالتالي التعاون مع المجتمع الدولي.
وعلى الرغم من كل ذلك يبقى السلوك الإيراني في صنع السياسات واضح المعالم في خلق بؤر تابعة لطهران في الدول، تشل بها الإرادات الوطنية وتتلاعب بالنسيج الاجتماعي فيها وتُنصّب فيها حكومات لا تحكم، وصولا إلى خلق ساحات مضطربة تجعل منها ورقة تستخدمها في صراعاتها مع الدول الكبرى. فإلى متى تبقى طهران تحارب باللبناني والعراقي والسوري واليماني في خارج أراضيها؟
كاتب عراقي