مقولة «العبرة بالخواتيم» تشير إلى أن مآل الأشياء والأشخاص والدول قد يختلف عن البدايات. ولو وبالنظر لدولة الصين، فتلك المقولة تنطبق عليها حرفيًا؛ فقد استطاعت بجدارة الصعود لمرتبة، ليس فقط لمصاف العالم الأول، بل أيضاً لمصاف الدول العظمى، أضف إلى ذّلك أنها تفوقت عليهم. والصين بلد الأسرار والأساطير، لا يمكن التنبؤ بكنهها؛ فقد استطاعت أن تجمع شتات نفسها من الدمار، وفي نحو سبعين عامًا صارت تناطح أكبر دولة عظمى على زعامة العالم.
ومن الجدير بالذكر أن الصين قاست ويلات الاضطهاد والإذلال من قبل جارتها اللدودة اليابان، التي أذاقتها مآسي تفوق ما فعله هتلر بأوروبا. فقد عانت الصين من حرب مريرة مع اليابان دامت لفترة ثماني سنوات، وانتهت بانتصار مأساوي، بعد أن كانت على شفا اليأس من التخلص من قبضة اليابان. خرجت الصين من الحرب «مهلهلة»؛ فالمجتمع الصيني الغفير العدد، انفرطت حبَّات عقده، وصار في حالة من الفوضى العارمة، فبات من شبه المستحيل السيطرة عليه مرة أخرى، إلا بوجود قبضة حديدية تمسك زمام الأمور.
أما الدولة، فكانت في حالة يرثى لها؛ لتدمير الجزء الأعظم من البنية التحتية، ففي السنوات الأولى من الحرب، دأبت اليابان على قصف المدن الصينية غير المأهولة. وفي العام الأخير من الحرب، قصفت الطائرات الأمريكية شمال وشرق وجنوب الصين؛ لأنها مناطق واقعة تحت سيطرة الاحتلال الياباني. وكانت العاقبة، تشريد سكان هذه المناطق، لدرجة أنه صار هناك عشرات الملايين من اللاجئين الصينيين. ولم يجد الشعب الصيني الغفير العدد قوته؛ لتراجع المحاصيل الزراعية. ومن ثم، انتشرت المجاعات في العديد من المناطق، وباتت الصين حطامًا.
ومن ثمّ صار انتصار الجيش الصيني على اليابان، ليس ذا أهمية عظمى؛ فالبلاد خربة، فانهار الجيش بعد أن انهزم الملايين منه، أما القوات الباقية المنتصرة فسلَّمت نفسها للحزب الشيوعي، الذي صارت له اليد العليا في ما بعد والمسمى بـ«تشونجوو جوميندانج» Zhongguo Guomindang (GMD). ولم تكن اليابان هي الخطر الوحيد الداهم للصين، فقد هيمن الجيش الأحمر الروسي على إقليم منشوريا، لدرجة أنه اعتقل نحو نصف مليون من المجندين الصينيين واتخذهم عبيدًا يعملون بالسخرة.
وتسببت أيضا سنوات الحرب الثماني، وهيمنة اليابان على الصين، في خلق فئة نفعية وجدت أن مصالحها تكون مع العدو (اليابان). فعمدت إلى إقامة شراكات وأعمال لا يمكن تصفيتها بسهولة. وبعد هزيمة اليابان، كان يُلقَّب هؤلاء بالخونة، وتم تجريم أغلبهم ومحاكمتهم علانيةً حظيت بتغطية إعلامية واسعة. ومن ناحية أخرى، عانت الصين من صدع في الجبهة العسكرية، لوجود قوات عسكرية صينية – ليست بالقليلة – تابعة لليابان وتحت إمرتها. وبسبب عددهم الغفير تم تسريح الغالبية العظمى منهم، في حين تم الإبقاء على بعضهم بسبب حاجة الوطن لما يمتلكونه من خبرات. أما من كان له علاقات مريبة مع الجانب الياباني، فتم التشهير بهم على أوسع نطاق، مثل ما حدث مع الكاتبة إيلين تشانج Zhang Ailing ما يعني أن انتقام الصين ممن وصمتهم بالخونة لم يكن من ذاك النوع الخشن في كل الأوقات.
وبغض النظر عن كل هذا، كانت أهم العوائق المكبلة للصين، انهيار الاقتصاد بأكمله؛ حيث هبطت الأسعار لأدنى معدلاتها بعد الحرب، بعد أن أفرج محتكرو السلع عن ما اكتنزوه من بضائع دفعة واحدة. لكن لم يستمر الوضع سوى شهرين فقط، ثم بدأت الأسعار في الارتفاع السريع، ومعها تبددت أوهام استئناف عمليات التصنيع، وحلم الانتعاشة التجارية، كما كان الوضع في ما مضى.
الصين مصنع العالم والمعجزة الاقتصادية والتكنولوجية الثابتة الأركان ـ على عكس اليابان ـ بنت اقتصادها وتميُّزها العالمي على أكتاف أرقى تكنولوجيات الغرب؛ فقد قدمت الأرض والمادة الخام والعمالة، نظير الاستفادة من عقول وعلوم لم تكن لتسبر غورها ولو بعد مئات الأعوام.
وحتى تتمكن الصين من القبض على زمام أمور شعبها، الذي أصبح متنازع الأهواء، وأن تتقرب من جارها اللدود الاتحاد السوفييتي بشكل غير مباشر، كان لدعوة ماو تسي تونج Mao Zedong مفعول السحر؛ فقد جمع حوله جميع أطياف الشعب من خلال تأسيس الحزب الشيوعي الصيني، الذي حكم البلاد من عام 1949 إلى يوم وفاته في 1976. بيد أن الحالة الاقتصادية للصين لم ترتقِ، وباتت الصين في مصاف الدول الفقيرة المتخلفة؛ خاصة بسبب مركزية الدولة، ومنع تملك المشروعات الخاصة، لكن النقلة النوعية التي بدلت مصير الصين، كانت تولِّى دينج شاو بينج Deng Xiaoping زمام الحكم بداية من عام 1978 وحتى وفاته في 1989. فقد عمل إصلاحات أيديولوجية واقتصادية تعيد هيكلة الصين، ما مهد لها الطريق لترتقي لمرتبة «قوة عظمى». وكانت أولى خطواته الإصلاحية السماح للأفراد بتملك مشروعات خاصة والاستفادة من أرباحها، وكذلك فتح الدولة أمام الاستثمارات والشراكات الأجنبية. ولجذب الاستثمارات ألغى تقريباً الضرائب على الشركات الأجنبية وأنشأ لهم أربع مناطق حرة تتمتع بتسهيلات غير مسبوقة. ومن ثم، وجد المستثمرون أن الصين فرصة من الواجب اغتنامها؛ فالمستثمر هناك تتوافر لديه خامات صناعية زهيدة السعر، وأيد عاملة بالملايين، ومنخفضة الأجر، لدرجة أن ما يتقاضاه طاقم بأكمله يوازي تقريبًا أجر عامل واحد في بلاده. وأهم من كل هذا وذاك، أنها أكبر سوق لتصريف المنتجات التي يتم تصنيعها؛ لوجود سوق استهلاكي قوامه في ذاك الوقت أكثر من مليار نسمة. فتسابقت الاستثمارات الأجنبية لدخول هذا السوق، خاصة الأمريكية التي أرادت التمتع بالضرائب الملغاة على الصادرات والواردات من قبل الحكومتين الصينية والأمريكية.
وللاستفادة من الأيدي العاملة، التي لا تطالب بالحقوق وقادرة على العمل في أسوأ الظروف، أضف إلى غض الحكومة الطرف عن الاشتراطات البيئية، التي تكلِّف أصحاب الاستثمارات أموالا طائلة، نقلت الولايات المتحدة صفوة تكنولوجيتها المتقدمة بأكملها للصين، ودربت أعدادا غفيرة من العمال من الصفر، ليس فقط على المهارات الصناعية والتكنولوجية، بل أيضاً على الأنظمة الإدارية، شجعهم على الإقدام على تلك الخطوة ما يُجْنَى من أرباح طائلة. أما الصين كدولة، فاستفادت بكل ما نُقل إليها، وتعلمت طريق الاستقلال وطريق تطوير قدراتها الإبداعية من خلال النسخ والتقليد في بادئ الأمر، إلى أن تفوقت وخلقت تكنولوجيات لم تستطع أي من الدول المتقدمة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الوصول إليها، وأكبر مثال «تقنية الجيل الخامس من الإنترنت.
الصين مصنع العالم والمعجزة الاقتصادية والتكنولوجية الثابتة الأركان ـ على عكس اليابان ـ بنت اقتصادها وتميُّزها العالمي على أكتاف أرقى تكنولوجيات الغرب؛ فقد قدمت الأرض والمادة الخام والعمالة، نظير الاستفادة من عقول وعلوم لم تكن لتسبر غورها ولو بعد مئات الأعوام. معجزة الصين هي «الاستكانة والاستفادة والانتقام المقنن» مطبقة بذلك نظرية: «داري على شمعتك تظل مشتعلة».
أكاديمية مصرية
مقال مفيد. شكرا