ديك الجن: الصعلوك الذي ألهم الأدب وصاغ الندم شعراً

كان ديك الجنّ واسمه عبد السلام بن رغبان (161هـ/235هـ) شاعرا مجيدا من فحول شعراء العصر العباسي، واكب ازدهار الحضارة العباسية وهي في أوج عطائها، ولد وعاش في حمص ولم يفارقها إلا لماما، وسمي بديك الجن لخضرة في عينيه، وأخباره وأشعاره متفرقة في كتب الأدب القديمة، حتى وفق المحققون إلى جمع أشعاره وإصدار ديوانه، ويقال إنه كان أستاذا لأبي تمام، وإن أبا نواس ودعبل أديا له زيارة في بيته في حمص وأبديا إعجابهما بشعره، ويقول ابن وكيع التنيسي في كتابه «المنصف في نقد الشعر»، إن شعر ديك الجن من المواطن التي سطا عليها المتنبي، اختلف إلى الكتاب في صغره كما تردد على مجالس الأدب فحفظ أشعار العرب، وآنس من نفسه القدرة على نظم الشعر، لأنه كان صاحب موهبة أدبية وخيال فني وملكة لغوية، ثم انخرط في سلك اللهو والعبث والمجون، وقد عرف المرأة لا كحبيبة وروح إنسانية بل كجسد يتأود ويتثنى فحيثما وجد لذاته – وقد كان مدمن خمر – أناخ راحلته وأترع كأسه وعاش ليومه بوهيميا، وكأن لسان حاله يقول بلسان شاعرنا الحديث:
لا تسأليني كم عشقت فإنني
كان الهوى روضي وقلبي طائر
لكن جوعا للجمال ألم بي
فمضيت في نهم الذئاب أغامر
كان ديك الجن متشيعا بالمعنى السياسي لا الديني الشعائري، وتفسير ذاك بأنه مفطور على التمرد والرفض، وحب الحرية وإباء الاندماج مع الجماعة فكان انحرافه تعبيرا عن وجوديته، ولم يكن يبالي بقول الناس فيه بقدر ما كان يعيش لنوازعه وشهواته، ورفضه السياسي هو مظهر من مظاهر رفض السلطة القائمة دينية أكانت أم سياسية، وكان معجبا بالشعراء الصعاليك، والشعراء الصعاليك هم ذاتهم عاشوا على الهامش وتمردوا على المركز رفضا لأعراف وقوانين القبيلة، ولكنهم كانوا أميل إلى الإنسان المظلوم والمسحوق، وقد أوجدوا قوانينهم وأعرافهم الخاصة، وعاشوا مخلصين لها، وقد تناول المعري ديك الجن في «رسالة الغفران» وبرأه وأدخله الجنان.
اشتهر ديك الجن بحب جارية نصرانية اسمها «ورد»، ويبدو أنها كانت اسما على مسمى وإلا لما أحبها شاعر عاش في حمى المرأة وتقلب معها في مراتع الهوى ومرابع النعيم وخبر الجمال وعرف أسراره، ولأنه أحبها دعاها إلى الإسلام ليتزوجها فأجابته إلى ذلك وقد قال في وصف حسنها:
انظر إلى شمس القصور وبدرها
وإلى خزاماها وبهجة زهرها
وردية الوجنات يخبر اسمها
من ريقها من لا يحيط بخبرها
كما قال في تعليل كلفه بها:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبا خاليا فتمكنـــــا
وهو يعترف بأنه قبل ورد لم يكن يعرف الحب، ولكنه بكل تأكيد عرف اللذة بمعاقرة الخمرة وحب الحواس أي الحب الجسدي، ولأنه كان حبا صادقا تطلب الإخلاص والوفاء والغيرة كذلك، وقد لامه أقاربه على حبه هذا ودعوه إلى تركها لكنه رفض ذلك بشدة، وقصة حبه لورد وما لاقاه في سبيلها والنهاية التراجيدية رواها أبو الفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني»، ومن هنا ذاعت وانتشرت وخلدت في كتب التاريخ الأدبي، فقد لامه ابن عمه المكنى بأبي الطيب على هذا الحب ونهاه فلم يأبه به ديك الجن، بل هجاه وشبهه بملك الموت وجعله أبا لخبيث. فلما ارتحل الشاعر إلى سلمية وهي بلدة قريبة من حمص، قاصدا الأمير أحمد بن علي الهاشمي، أذاع ابن عمه خبر خيانة ورد لزوجها مع خادمه في غيابه، وسمع الشاعر بالخبر وهو بسلمية، فعاد سريعا لكن ابن عمه كاد له بأن طلب من الغلام أن يأتي سيده بالبيت، فلما دق على الباب وفتح الشاعر إذا هو بالغلام وجها لوجه فانطلت الحيلة على الشاعر ويقن أنه كان يزور زوجته في غيابه فقام إلى سيفه فجز عنقها وتركها جثة تسبح في دمها وأنشد:
أيها القلب لا تعـــــــد
لهوى البيض ثانيـــــه
خنت سري ولم أخنك
فموتي علانيـــــــــــه
غير أنه لما تحقق من الأمر أدرك براءتها فندم وانقطع ينتحب أكثر من شهر وجاشت نفسه بشعر جيد في وصف لوعة الفقد ومرارة الندم وألم الوحدة والوحشة النفسية :
قولي لطيفك ينثني
عن مضجعي عند المنام
فعسى أنام فتنطفي
نار تأجج في عظامي
جسد تقلبه الأكف
على فراش من سقام
أما أنا فكما علمت
فهل لوصلك من دوام؟
يقول شوقي ضيف (وليس من شك في أن أروع أشعار ديك الجن ما نظمه في بكاء صاحبته متفجعا متحسرا نادما كما لم يندم أحد).
وقد ألهمت قصة ديك الجن كثيرا من الشعراء والكتاب، فمثل الغيرة والشك في وفاء المحبوب ووشاية الحساد وكيد الكائدين أمور طبيعية في دنيا الناس ولا يخلو أدب من آداب العالم من أمثال ذلك، فالنفس الإنسانية تتقلب بين مشاعر من اليمين إلى اليسار، ومن النقيض إلى النقيض، بين الحب والكره، والإيثار والأثرة، والرضا والحسد، والشغف والملل، والإيمان والإنكار، والإثبات والنفي.. وهلم جرا ولهذا تصلح هذه العواطف المتناقضة كوقود لمتون سردية أو نصوص مسرحية أو أشعار غنائية، لأن توصيف المرجل الذي يغلي في الأنفس الإنسانية يدفع بالنصوص إلى التأزم، وبيان الجدل الحاصل في داخل الإنسان بين مثله وواقعه، وبين خيريته وجانب الشر فيه وأيهما أغلب.
وكان الشاعر الرقيق عزيز أباظة (1899/1973) قد نظم قصة حب ديك الجن شعرا وكتب في المقدمة (يروى أن ديك الجن الحمصي قتل جاريته الحسناء حبا بها وغيرة وجبل من بقايا جثتها المحروقة كأسه:
قبلتها والليل ينفض عنه أسراب النجوم
ومدامعي تجري، وكفي فوق خنجري الأثيم
وجبلت من تلك الجذى كأسي ومن تلك الكلوم
فاشرب ودعها فهي ما مرت على شفتي نديم
بل من النقاد من يزعم أن شكسبير (1564/1616) ربما يكون قد اطلع على قصة ومأساة ديك الجن، ولا عجب فبعض نصوص الأدب العربي كانت مترجمة إلى اللاتينية في العصر الوسيط، وقد تطرقنا في مقالة في «القدس العربي» بتاريخ 11مايو/أيار 2022 إلى أثر مقامات الهمذاني والحريري في الأدب الإسباني وقد كانت مترجمة إلى اللاتينية، وإلى العبرية، ويؤكد شاعر القطرين خليل مطران، الذي عرب بعض مسرحيات شكسبير، استشراق كبير كتاب وشعراء الإنكليز في كلفه بالتعبير الدقيق وتصوير الحالات النفسية والشؤون الخاصة، وتلوين العبارة بالتشبيه والمجاز والكناية، وتصعيد الآهات، عبر الأحداث والمبالغة في استقصاء أبعاد الصور الحسية، ولاسيما المعنوية، وما يقود ذلك إلى الإغراق في التشبيه التمثيلي والمبالغة والغلو. وقد كتب في معرض تعريبه لبعض مسرحيات شكسبير استجابة لفرقة جورج أبيض 1912 (إن في نفس شكسبير نفسا عربيا بلا منازعة وهو أبين فيها مما بان في نفس فكتور هوغو. أقرأ لغتنا أم نقلت إليه بعض المترجمات الصحيحة؟ لا أعلم ولكن بيننا وبينه من وجوه متعددة مشاكلة محيرة).
في مسرحية عطيل لشكسبير، الذي ولد بعد ديك الجن بثمانية قرون بعض الشبه فعطيل من أصل مغربي، إلا أنه إنكليزي من حيث انتسابه الفني، فقد ابتكره خيال شكسبير الفني، قتل عطيل الأسود زوجته البيضاء من غير جرم أتته، أو إثم اقترفته، مع أن والدها تبرأ منها بسبب رغبتها في الزواج من عطيل، فقد رأى في هذا الزواج مسا بقيمته وحطا من مكانته، فهي إنكليزية وهو مغربي، وهي بيضاء وهو أسود لكن «ديدمونة» تعلقت بعطيل وتزوجته وطاوعت قلبها متحدية الأعراف والتقاليد المرعية، وثقافة المركز والهامش وجدلية الصراع الحضاري، لكنها ويا للمفارقة انتهت مقتولة خنقا لمجرد شك عطيل في وفائها، وتصديق واش وشى واختلق أكاذيب حول عفتها!
يقول خليل مطران: (إن شكسبير وضع هذه القصة لإظهار الغيرة وتأثيرها على الرجال، لذا اختار عاشقا افريقيا بدوي الفطرة، ليكون وثاب الشعور عنيفه، عسكري المهنة ليكون سريع التصديق والانخداع). في قصة ديك الجن وعطيل بعض التشابه، فزوجة ديك الجن نصرانية تركت دينها تعلقا بحبيبها، وهي من ثقافة وجغرافيا أخرى، وديك الجن عاشق أخذه الشك والغيرة ثم الانتقام والندم، وعطيل مغربي والزوجة إنكليزية، وهو أسود وهي بيضاء من ثقافتين وجغرافيا مختلفتين، وقد طوح الشك بعطيل كل مطوح فلم يجد من حل لهذا البركان الذي انفجر في داخله، إلا بإخماده بدم مسفوح وروح مغتالة. إن قتل المحبوب من الناحية النفسية هو فرط أنانية، وقمة نرجسية وغريزة تملك كبيرة شديدة الحدّة، فالعاشق لا يحب حتى من ينظر بإعجاب إلى جمال محبوبه، ويغار عليه لأنه يدخل في إطار ملك وجداني وجسدي، فإذا شك بدأت الوساوس والظنون والقلاقل، وإن هناك من يقترب من حماه ومن ملكيته، وتتصاعد الأزمة باتجاه التعقد وتشتد الكوابيس والآلام والمتاعب النفسية إلى درجة تدمير الذات، أو تدمير المحبوب حبا فيه وضنا به على الآخر حتى لا يشارك في هذه الملكية.
بقي أن نشير إلى قصة مشهورة تدخل في السياق نفسه من غير تأثر بقصة ديك الجن، بل تؤكد سطوة الشك وعذاب التساؤل وغياب اليقين وجهنم الحيرة من فرط الحب، وما يفعله الشك وهي قصة الشاعر الأمير عبد الله الفيصل (1921/2007) وزير الداخلية، فقد عرف بحبه لزوجته «الجوهرة» ثم تزوج من أخرى مع بقاء حبه لزوجته الأولى، وشاع بين الناس عدم وفاء زوجته الثانية وتألم الشاعر الأمير لذلك، لكنه لم يقطع الشك باليقين فنظم قصيدته الذائعة « ثورة الشك» 1958 التي لحنها رياض السنباطي وغنتها سيدة الغناء العربي أم كلثوم، وذاعت القصيدة بين الناس أكثر بسبب غناء أم كلثوم لها، كما ذاعت قصيدة الأطلال لإبراهيم ناجي:
أكاد أشك في نفسي لأني
أكاد أشك فيك وأنت مني
يقول الناس إنك خنت عهدي
ولم تحفظ هواي ولم تصني
أجبني إن سألتك هل صحيح
حديث الناس خنت، ألم تخني؟
وتبقى قصة ديك الجن إحدى قصص الحب والشك والندم وهي قصة الإنسان في حبه وفرحه ونشوته، في شكه وقلقه، وما من شك في أن حياة ديك الجن مع النساء قبل زواجه من ورد، جعلته يشك في وفاء المرأة وربما أنكره، وفي الشعر العربي كثير ما يتطابق مع هذه النظرة. إلا أن شعر ديك الجن، من ناحية التصوير الفني للوعة الحب وتباريح الشك وحسرات الندم، كل ذلك جعل شعره في الصدارة، وهذا هو سر خلود الأدب بتصويره النفس الإنسانية في حالاتها المختلفة بصدق وتعمق وإدراك للجدليات بحرارة عاطفة وصدق وجدان، وقد قيل إن أروع أشعار أبي نواس كانت في الخمرة كما كانت في شعر التوبة والندم، فقد كان صادقا في عربدته، كما كان صادقا في توبته وندمه وحرارة إيمانه، كما يقال إن أشعار أبي العتاهية الزهدية ملفقة مصطنعة لأنه نظمها للخلفاء لينال حظوتهم ويحظى بجوائزهم فقد كان الخلفاء لما يحيون فيه من النعيم وما يتهتكون فيه من شهوات ونزوات يطلبون من الشعراء ومن الوعاظ أن يذكروهم بالموت والآخرة والحساب، وكان أبو العتاهية يدبج القصيد تحت الطلب في أشعار زهدية ينقصها الصدق الفني، وهو أحد أهم أسرار خلود الكلمة على كر القرون وتعاقب الأجيال.

٭ كاتب جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية